أسعار الذهب اليوم الأربعاء 20 أغسطس في بداية التعاملات    أسعار الأسماك والخضروات والدواجن الأربعاء 20 أغسطس    الرهائن ال20 والإعمار، ويتكوف يكشف وصفة إنهاء حرب غزة    شهداء وجرحى جراء في غارات إسرائيلية متواصلة على خان يونس    "تفوق أبيض وزيزو الهداف".. تاريخ مواجهات الزمالك ومودرن سبورت قبل مباراة الدوري    نجم الزمالك ينعى محمد الشناوي في وفاة والده    الكشف عن طاقم تحكيم مباراة الزمالك ومودرن سبورت بالدوري    البيت الأبيض يُطلق حسابًا رسميًا على "تيك توك".. وترامب: "أنا صوتكم لقد عدنا يا أمريكا"    مواعيد صرف مرتبات شهر أغسطس 2025 والحد الأدنى للأجور.. احسب مرتبك    د.حماد عبدالله يكتب: كفانا غطرسة.. وغباء !!    صعبة وربنا يمنحني القوة، كاظم الساهر يعلن مفاجآت للجمهور قبل حفله بالسعودية (فيديو)    حمزة نمرة عن أحمد عدوية: أستاذي وبروفايل مصري زي الدهب»    لأول مرة .. برج المملكة يحمل أفيش فيلم درويش    المناعة الذاتية بوابة الشغف والتوازن    محاكمة المتهم بابتزاز الفنان طارق ريحان اليوم    مجلس القضاء الأعلى يقر الجزء الأول من الحركة القضائية    10 صور ترصد استعدادات قرية السلامية بقنا للاحتفال بمولد العذراء    تبكير موعد استدعاء 60 ألف جندي احتياطي إسرائيلي لاحتلال غزة    31 مليون جنيه مصري.. سعر ومواصفات ساعة صلاح في حفل الأفضل بالدوري الإنجليزي    6 رسائل مهمة من مدبولي أمام مجلس الأعمال المصري الياباني بطوكيو    موعد امتحان الصف التاسع 2025 التعويضي في سوريا.. وزارة التربية والتعليم السورية تعلن    موعد بدء تنسيق المرحلة الثالثة 2025 ونتيجة تقليل الاغتراب (رابط)    تنسيق الثانوية العامة 2025.. كليات المرحلة الثالثة من 50% أدبي    فلكيا.. موعد المولد النبوي الشريف 2025 في مصر وعدد أيام الإجازة الرسمية للموظفين والبنوك    خلال بحثه عن طعام لطفلته.. استشهاد محمد شعلان لاعب منتخب السلة الفلسطيني    بعد موافقة حماس على وقف اطلاق النار .. تصعيد صهيوني فى قطاع غزة ومنظمة العفو تتهم الاحتلال يتنفيذ سياسة تجويع متعمد    حسام المندوه: بيع «وحدت أكتوبر» قانوني.. والأرض تحدد مصير النادي    مصدر أمني ينفي تداول مكالمة إباحية لشخص يدعي أنه مساعد وزير الداخلية    نبيل الكوكي: التعادل أمام بيراميدز نتيجة مقبولة.. والروح القتالية سر عودة المصري    محافظ شمال سيناء يلتقى رئيس جامعة العريش    ترامب يترقب لقاء بوتين وزيلينسكي: «أريد أن أرى ما سيحدث»    مصطفى قمر يهنئ عمرو دياب بألبومه الجديد: هعملك أغنية مخصوص    الإليزيه: ربط الاعتراف بفلسطين بمعاداة السامية مغالطة خطيرة    جولة ميدانية لنائب محافظ قنا لمتابعة انتظام عمل الوحدات الصحية    في أقل من 6 ساعات، مباحث الغربية تضبط سائق شاحنة دهس طفلا وهرب بقرية الناصرية    أكلة لذيذة واقتصادية، طريقة عمل كفتة الأرز    بالزغاريد والدموع.. والدة شيماء جمال تعلن موعد العزاء.. وتؤكد: ربنا رجعلها حقها    المقاولون يهنئ محمد صلاح بعد فوزه بجائزة أفضل لاعب فى الدوري الإنجليزي    1 سبتمر.. اختبار حاصلى الثانوية العامة السعودية للالتحاق بالجامعات الحكومية    أحمد العجوز: لن نصمت عن الأخطاء التحكيمية التي أضرتنا    مصرع والد محمد الشناوي .. القصة الكاملة من طريق الواحات إلى كفر الشيخ    رئيس وكالة «جايكا» اليابانية مع انعقاد قمة «التيكاد»: إفريقيا ذات تنوع وفرص غير عادية    شاهد.. رد فعل فتاة في أمريكا تتذوق طعم «العيش البلدي المصري» لأول مرة    بعيدًا عن الشائعات.. محمود سعد يطمئن جمهور أنغام على حالتها الصحية    هشام يكن: أنا أول من ضم محمد صلاح لمنتخب مصر لأنه لاعب كبير    تخريج دفعة جديدة من دبلومة العلوم اللاهوتية والكنسية بإكليريكية الإسكندرية بيد قداسة البابا    «مصنوعة خصيصًا لها».. هدية فاخرة ل«الدكتورة يومي» من زوجها الملياردير تثير تفاعلًا (فيديو)    حملة مسائية بحي عتاقة لإزالة الإشغالات وفتح السيولة المرورية بشوارع السويس.. صور    السيطرة على حريق بأسطح منازل بمدينة الأقصر وإصابة 6 مواطنين باختناقات طفيفة    رسميا الآن بعد الارتفاع.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 20 أغسطس 2025    حدث بالفن| سرقة فنانة ورقص منى زكي وأحمد حلمي وتعليق دينا الشربيني على توقف فيلمها مع كريم محمود عبدالعزيز    تحتوي على مواد مسرطنة، خبيرة تغذية تكشف أضرار النودلز (فيديو)    تعدّى على أبيه دفاعاً عن أمه.. والأم تسأل عن الحكم وأمين الفتوى يرد    هل الكلام أثناء الوضوء يبطله؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف تعرف أن الله يحبك؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    أمين الفتوى ل الستات مايعرفوش يكدبوا: لا توجد صداقة بين الرجل والمرأة.. فيديو    الشيخ خالد الجندى: افعلوا هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله    بالصور- افتتاح مقر التأمين الصحي بواحة بلاط في الوادي الجديد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصتان
نشر في أخبار الحوادث يوم 26 - 11 - 2016


دائرةٌ‮ ‬مغلقةٌ
‮ ‬لمس الواقف إلي الخلف مني كتفي؛ قال‮: ‬تليفونك‮ ‬يرن‮.‬
‮ ‬أخرجت التليفون من جيب سروالي‮. ‬فتحته‮. ‬لا أعرف صاحب الرقم الظاهر بالشاشة‮. ‬مفتاح الرقم دولي‮. ‬أنتظر أكثر من خبر،‮ ‬من اليونسكو بباريس بشأن التعاقد علي ترجمة كتاب التبدلات المناخية الكونية،‮ ‬ومن صديق لي في مالطا،‮ ‬ومن جامعة العين بالإمارات‮. ‬أجبت‮: "‬نعم‮". ‬جاء صوت نسائي‮ ‬يتحقق من اسمي‮. ‬قلت‮: " ‬هو أنا‮ ". ‬انطلق صوتها‮ ‬يخبرني بأنها مذيعة بمحطة إذاعة عربية مقرها بأوروبا،‮ ‬وتبث إرسالها عبر البحار،‮ ‬وأنها حصلت علي رقم هاتفي وكافة بياناتي الشخصية من موقع بالانترنت أنشر به قصصي ومقالاتي‮. ‬قالت أيضاً‮ ‬أنني قد تم اختياري من بين عشرات الأفراد،‮ ‬من دول مختلفة،‮ ‬وأن الاختيار تم عشوائياً،‮ ‬بواسطة برنامج كمبيوتر‮.‬
‮ ‬لم‮ ‬يكن الزمان والمكان مناسبين لمثل هذه المهاتفة،‮ ‬فأصابني شيء من الارتباك،‮ ‬وحاولت ألا أبدو فظاً‮: " ‬أهلاً‮ ‬بك سيدتي‮.. ‬فقط،‮ ‬مكالمتك فاجأتني،‮ ‬ولا أعرف كيف أخدمك؟‮". ‬صاحت‮: " ‬ها أنت قلتها‮: ‬المفاجأة‮ !.. ‬أنت الآن تتحدث إلي الملايين من مستمعينا،‮ ‬عبر دائرة إذاعية‮".‬
أحاطت بي عيون وآذان المستطلعين،‮ ‬فأسرعت أنهي المكالمة‮: " ‬آسف‮ ‬يا سيدتي‮.. ‬ابحثي عن أحد‮ ‬غيري‮ ".‬
انصرف الفضوليون،‮ ‬وعدت أطمئن إلي عدد الواقفين أمامي في الصف‮. ‬لم‮ ‬ينقص،‮ ‬والوقت‮ ‬يتقدم‮. ‬موظف واحد‮ ‬يخدم المئات،‮ ‬والإجراءات بطيئة،‮ ‬والأوراق كثيرة،‮ ‬يفحصها واحدة بعد الأخري،‮ ‬علي مهل،‮ ‬غير مكترث بمن تحترق أعصابهم في الصف الطويل الواقف قبالة النافذة التي‮ ‬يجلس خلفها،‮ ‬والمزروعة بعدة قضبان حديدية‮. ‬وكنت،‮ ‬طول الوقت،‮ ‬أحاذر أن‮ ‬يدفعني أحد من المارين فأدوس في مياه المجاري التي تتدفق بهيئة نافورة صغيرة من فتحة بغطاء مجرور‮ ‬غير بعيد،‮ ‬وتجري في نهر صغير مواز للصف الطويل الذي أقف بمنتصفه،‮ ‬و لا‮ ‬يكاد أحد‮ ‬يشعربأنه‮ ‬يتحرك‮.‬
وكنت،‮ ‬ربما تخففاً‮ ‬من رداءة حالي في هذا الصف المختل،‮ ‬الذي‮ ‬يسبقني ويلحق بي فيه أُناسٌ‮ ‬تحكم العشوائية سلوكيات معظمهم،‮ ‬فلا‮ ‬يلتزمون بنظام،‮ ‬ولا‮ ‬يحترمون حظر التدخين في الأماكن العامة،‮ ‬ولا‮ ‬يتورعون عن التلفظ بالسباب والشتائم البذيئة،‮ ‬لأتفه الأسباب،‮ ‬أو دون داع‮.. ‬ربما كنت أحاول الانفصال عنهم باستعادة تفاصيل الحوار القصير الذي فاجأتني به مذيعة تلك الإذاعة القادمة من وراء البحار‮. ‬ويجب أن أعترف بأن الفكرة جيدة،‮ ‬وأن جودتها تأتي من خروجها علي المألوف؛ وأقر أيضاً‮ ‬بأن المذيعة كانت ماهرة،‮ ‬وأنها كانت تحاول الإمساك بي،‮ ‬لولا الحالة العصبية التي وضعني فيها موقفي وأنا أخوض المياه المتسخة،‮ ‬في ممر ضيق خانق بساحة بناية حكومية كريهة المظهر،‮ ‬وخشيتي أن‮ ‬يمضي الوقت،‮ ‬وتأتي الساعة الواحدة،‮ ‬فيغادر الموظف نافذة خدمة الجماهير في صمت،‮ ‬غير عابئ بمن‮ ‬يجرؤ علي رفع صوته احتجاجا علي سوء الخدمة‮.‬
كنت،‮ ‬منذ سنة أو أكثر،‮ ‬ضيفا علي برنامج إذاعي مشابه،‮ ‬تحدثت فيه عن الآثار البيئية المترتبة علي حرب الخليج،‮ ‬وتلقيت أسئلة عن مياه دجلة والفرات وشط العرب،‮ ‬وعن اليورانيوم المنضَّب وآبار البترول المحترقة،‮ ‬علي الهواء مباشرة،‮ ‬من اليمن ولبنان والمغرب،‮ ‬ومن مواطن عربي‮ ‬يعيش قرب قاع العالم،‮ ‬في جنوب استراليا؛ ولكني كنت أتحدث من مكتبي ببيتي،‮ ‬وكان الترتيب للبرنامج متفقا عليه مسبقاً‮.‬
انتبهت إلي صوت أحد الواقفين بالصف‮ ‬ينبه إلي ضرورة وجود نموذج خاص ضمن الأوراق،‮ ‬لا تتم الإجراءات بدونه‮. ‬لم‮ ‬يكن ذلك مدرجا بقائمة الأوراق المطلوبة،‮ ‬التي التزمت بها،‮ ‬والمعلن عنها علي جدار البناية الحكومية‮. ‬أوراقي تخلو من هذا النموذج،‮ ‬فهل ستخيب هذه الجولة من المعاناة ؟‮. ‬قررتُ‮ ‬أن أكون عنيفا مع موظف النافذة إن هو طالبني بما هو أكثر من المبين بالقائمة‮. ‬غير أن هاجس فشل الجولة رفع درجة إحساسي بالضيق والتوتُّر‮.. ‬وهنا،‮ ‬ويا لغرابة المُصَادَفة،‮ ‬عاد تليفوني‮ ‬يرن؛ وكان الطالب هو الرقم الخارجي ذاته‮.‬
فتحتُ‮ ‬الاتصال‮. ‬جاءني صوتها‮. ‬كانت تواصل،‮ ‬كأن مكالمتنا الأولي لم تنقطع‮: " ‬صف لنا حالك في هذه اللحظات‮.. ‬لا أعتقد أن كاتباً‮ ‬متمرِّساً‮ ‬مثلك‮ ‬يعجز عن وصف اللحظة الراهنة التي‮ ‬يعيشها‮ ". ‬
ظهر التوتُّرُ‮ ‬في صوتي الزاعِقِ‮: " ‬ملعونٌ‮ ‬اليومُ‮ ‬الذي أصبحت فيه كاتباً‮ !.. ‬ما جدوي الكتابة ؟‮.. ‬ما قيمتي أنا الكاتب وسط هذا الكم من الفوضي ؟‮.. ‬هل تعرفين معني أن تقضي أكثر من ساعتين واقفة،‮ ‬تجري من تحتك مياه المجاري‮ ‬،‮ ‬بانتظار قرار من موظف ساديّ،‮ ‬تخلو ملامح وجهه من أي عاطفة ؟‮ ". ‬
صفقت المذيعة‮.. ‬نعم،‮ ‬سمعت صوت تصفيقها،‮ ‬ولابد أن المستمعين في نطاق إرسالها الإذاعي قد سمعوا التصفيق؛ وعادت تقول بصوتها المزقزق،‮ ‬غير عابئة إلا بتحقيق النجاح لبرنامجها الذي‮ ‬يقتحم علي‮ ‬الناس حياتهم‮: " ‬حسناً‮.. ‬حسناً‮.. ‬أرجوك‮.. ‬استمر‮ ! ".‬
لفتت كلماتي العصبية أنظارَ‮ ‬رفاق الصف إليَّ،‮ ‬وبادر بعضهم بإعلان استحسانه‮. ‬تنازلَ‮ ‬لي أحدهم عن موقعه المتقدم نسبياً،‮ ‬فشكرته واعتذرت عن تقبل هديته‮. ‬واكتشفت أن ثمة رجلَ‮ ‬شرطة عجوزاً‮ ‬يقف علي مقربة منا‮. ‬جاءني مستفسراً‮ ‬عن طلباتي‮. ‬أخبرته عن شهادة ميلاد ابني والتعقيدات التي صادفتها‮. ‬كان الهاتف لا‮ ‬يزال مفتوحاً‮ ‬بيدي‮.. ‬أنساني انفعالي الطارئ أن أغلقه،‮ ‬وكنت ألوِّحُ‮ ‬به،‮ ‬في مختلف الاتجاهات،‮ ‬معبراً‮ ‬عن انفعالاتي،‮ ‬كما أن أحداً‮ ‬من جيراني في الصفِّ‮ ‬لم‮ ‬يفطن إلي أن هاتفي المحمول بقي مفتوحاً‮ ‬طيلة الوقت وأنا أحكي للشرطي العجوز قصة الشهادة‮.. ‬ذهب الولد،‮ ‬بعد بلوغه السن القانونية،‮ ‬لاستخراج بطاقة هوية،‮ ‬فطالبه المسئولون بشهادة ميلاد‮ (‬بالكمبيوتر‮). ‬تقدمنا بطلب للحصول عليها،‮ ‬فأعطونا شهادة بها كل البيانات،‮ ‬تخلو من اسم‮ (‬المولود‮) !. ‬فكان علينا نحن الذين لم نرتكب هذا الخطأ أن نتداركه فنحصل علي شهادة ميلاد‮ (‬يدوية‮)‬،‮ ‬مكتملة البيانات،‮ ‬نرفقها بالشهادة المنقوصة،‮ ‬لإصلاح الخطأ‮. ‬قال الشرطي‮: " ‬وهل أنت هنا من أجل الشهادة اليدوية ؟‮ ". ‬قلت‮: " ‬نعم‮ ". ‬قال‮: " ‬أخطأت‮.. ‬اتبعني،‮ ‬سأحلُّ‮ ‬لك المشكلة،‮ ‬بإذن الله‮ ... ". ‬
خرجت من الصفِّ‮ ‬وسرت وراءه؛ فلم نلبث أن دخلنا إلي بناية مجاورة‮. ‬صعدنا سلماً،‮ ‬ودخلت وراءه إلي قاعة صغيرة،‮ ‬تكاد تخلو من الهواء،‮ ‬مليئة بأرفف تنوء بسجلات حائلة اللون‮. ‬تقدمنا من موظف وراء مكتب صغير‮. ‬أمره الشرطي‮: " ‬شف طلبات البك‮ ! ". ‬وكان هو الذي انتبه إلي أن الهاتف لا‮ ‬يزال مضيئاً،‮ ‬فقطعت الاتصال‮.‬
تركني الشرطي في مواجهة الموظف الذي استقبلني فمه بابتسامة‮. ‬أخبرته بما أطلب؛ قال‮: ‬غالٍ‮ ‬والطلب رخيص‮ !. ‬وأخرج أوراقه،‮ ‬وسألني‮: " ‬ما اسم الولد ؟‮ ". ‬قلت‮: " ‬عمرو‮ ". ‬وبعد أن انتهي من الكتابة،‮ ‬أخرج من درج المكتب كيسا قماشيا،‮ ‬كان به خاتم شعار الدولة،‮ ‬ضرب به علي علبة الحبر،‮ ‬ثم علي الورقة،‮ ‬وقال وهو‮ ‬يقدمها لي‮: " ‬أي خدمة‮ ! ‬كان المكتوب الرسمي في‮ ‬يدي،‮ ‬لينتهي كابوس مزعج،‮ ‬مقابل ورقة مالية متوسطة القيمة‮. ‬وكنت أخرج من البناية‮ ‬غير مصدق؛ وقبل أن أغادر الباب الخارجي،‮ ‬رنَّ‮ ‬الهاتف مرة أخري؛ وكانت المذيعة تواصل مطاردتها لي،‮ ‬وتخبرني بأننا كنا قد توقفنا عند ما ذكرته عن مشكلة شهادة الميلاد‮. ‬وكان حالي كمن وجد مقعداً‮ ‬بعد جهد طال،‮ ‬وقد تطاير قلقي وتوتري،‮ ‬فلم أجد بأساً‮ ‬في بعض اللين معها؛ فوجدتني أهتف عبر إذاعتها‮ :" ‬يا ربي‮ !.. ‬انتهي الكابوس‮! ". ‬
قالت‮: " ‬إذن،‮ ‬فقد حصلت علي ما ابتغيت‮.. ".‬
قلت‮: " ‬هذا صحيح‮.. ‬هذا صحيح،‮ ‬وإن كنت اضطررت لتقديم رشوة‮ ! ".‬
قالت‮: " ‬لا تبتئس‮.. ‬لا تبتئس‮.. ‬معنا أول مداخلة هاتفية‮.. ‬تفضل أستاذ‮.. ".‬
قال‮: " ‬مصطفي تيسير‮.. ‬من عمّان‮.. ‬أرجو أن تتحملني‮ ‬يا أستاذ‮.. ‬معذرة‮.. ‬لقد قدمت لنا نموذجا حياً‮ ‬للمثقف العربي وقدرته علي تبرير المواقف والسلوكيات حسب هواه،‮ ‬وعلي النقيض تماماً‮ ‬لما‮ ‬يدعو إليه‮.. ‬أنت أول من‮ ‬يعرف معني الرشوة،‮ ‬ومع ذلك لجأت إليها لكي تتخلص من ما لم تحتمله من تعقيدات مكتبية،‮ ‬في مسألة صغيرة للغاية،‮ ‬هي استخراج وثيقة لولدك‮.. ‬ويدخل في ذلك تعاليك عن أن تعايش الناس،‮ ‬ففي ذهنك‮ ‬يستقر أنك متميز؛ وكان الأجدر بتميزك أن‮ ‬يجعلك تتصرف بأسلوب آخر،‮ ‬ولا تستسهل تقديم الرشوة‮.. ".‬
هالتني المفاجأة؛ وهالني أكثر حدة الانتقاد‮. ‬وكنت أهم بالرد فأفسحت المذيعة المجال لمداخلة أخري‮: " ‬لن أدافع عن موقف ضيف الحلقة،‮ ‬ولكن علينا إدراك أن الطرح‮ ‬النظري للأمور‮ ‬يغاير تماماً‮ ‬معالجتها علي أرض الواقع؛ فبالرغم من ميكنة نظم العمل في دواويننا إلا أن مشكلة كهذه تؤكد أن العامل البشري لدينا لا‮ ‬يزال‮ ‬يعيش منتصف القرن المنقضي،‮ ‬بأحسن التقديرات،‮ ‬ويصعب التصدي لنظام لا‮ ‬يزال‮ ‬يعيش به هذا العامل المتخلف،‮ ‬فوجوده عنكبوتي،‮ ‬ولن‮ ‬يجدي أمامه إلا الزمن؛ فعلينا أن ننتظر قليلاً‮ ‬حتي‮ ‬يتساقط‮.. ".‬
توجهت المذيعة بحديثها إليَّ‮: " ‬تعليق أخير من ضيف الحلقة‮.. ".‬
قلت‮: " ‬أنا ألتمس العذر لصاحب المداخلة الأولي،‮ ‬وأعترف بأن عنده بعض الحق،‮ ‬وإن كنت أنفي عن نفسي تهمة التعالي،‮ ‬فها أنا إنسان بسيط‮ ‬يسعي ليحل مشكلة أسرية صغيرة؛ ولو كنت متعاليا لاستأجرت من‮ ‬يقوم عني بأداء المهمة،‮ ‬أو لاستعنتُ‮ ‬بأقارب ومعارف لي‮ ‬يعملون بخدمة الحكومة في مواقع سلطوية،‮ ‬ولابتعدت تماما عن مخالطة الناس‮. ‬ولماذا لا تعتبرني متفاعلاً،‮ ‬غير منغلق،‮ ‬فقد تعرضت لموقف واستجبت للظروف التي فرضت عليَّ‮. ‬ثم إنك لا تدرك بعدا آخر للمسألة،‮ ‬فقد كنت أمام موظف صغير،‮ ‬شاحب الوجه،‮ ‬يبدو مكدوداً،‮ ‬ذكَّرني بأبي الذي كان‮ ‬يعمل بوظيفة كتابية في بنك‮ ‬يقدم الخدمات للمزارعين؛ وكان‮ ‬يقبل من الفلاحين البسطاء هداياهم،‮ ‬في مقابل تسهيلات‮ ‬يقدمها لهم؛ وكانت تلك الهدايا،‮ ‬من سمن وجبن وطيور داجنة،‮ ‬تعينه علي تنشئتي وأخوتي؛ وكان مساري ليتغير بدونها،‮ ‬ربما،‮ ‬فسوء التغذية سبب حاكم في تربية الصغار‮ !".‬
علَّقت المذيعة قائلة‮: " ‬هذه مكاشفة شجاعة؛ وأجد أن تلك هي النقطة الأنسب لينتهي عندها برنامجنا‮ ". ‬وشكرتني وضيفيها الآخرين،‮ ‬وكل من ساعدها من الفنيين؛ وانتهت دائرتها المغلقة‮.‬
وكنت قد نسيت أمر الشرطي العجوز تماماً،‮ ‬ففوجئت به في مواجهتي،‮ ‬علي بعد خطوات قليلة من البناية الحكومية‮. ‬بادرني‮: " ‬لعل طلبك أجيب بتسهيل من الله‮ ! ". ‬قلت،‮ ‬وأنا أفتش في جيبي‮: " ‬نعم‮.. ‬وأشكرك‮ ! ". ‬ومد‮ ‬يده‮ ‬يلتقط من بين أصابعي ورقة مالية ملفوفة،‮ ‬متوسطة القيمة‮.‬
بكتيريا
أستاذي،‮ ‬يجلس في مقعده الوثير،‮ ‬بالاستراحة التي أشاركه سكناها،‮ ‬يضع ساقا علي ساق،‮ ‬وأصابع‮ ‬يده اليمني تعبث بأصابع قدمه اليسري‮. ‬حين اقتربت منه لأعطيه سماعة التليفون،‮ ‬التقطت أنفي رائحة عفن‮. ‬أمسك السماعة بذات اليد اليمني‮. ‬التفت حولها أصابعه التي كانت تفرك ما بين أصابع القدم اليسري‮. ‬كان‮ ‬يتحدث كثيرا عن الطبيبة الصغيرة التي قابلته في عيادة الجامعة وعاينت تطورات مستوي السكر في دمه،‮ ‬وأكدت عليه أن‮ ‬يهتم بحماية قدميه،‮ ‬وإلا هاجمهما المرض‮.‬
‮‬
شيخٌ‮ ‬مسترخٍ‮ ‬في بهو النادي،‮ ‬مستسلماً‮ ‬لبقعة شمس شتوية تغمره،‮ ‬وقد سقطت رأسه باتجاه كتفه الأيسر،‮ ‬والذباب‮ ‬يحوم فوق عينيه المغمضتين؛ وهو في سبات عميق‮. ‬حين اقتربت منه متوجساً،‮ ‬رأيت صدره‮ ‬يتحرك مع تنفسه،‮ ‬وكانت الإفرازات البيضاء تتجمع في ركني العينين الداخليين،‮ ‬والذباب‮ ‬يتزايد‮.‬
‮‬
في السادسة والنصف صباحاً،‮ ‬والشارع خال تماماً،‮ ‬وأنا ذاهب إلي محطة القطار،‮ ‬وسمكة كبيرة مبقورة البطن،‮ ‬مفقوءة العين،‮ ‬ملقاة بجانب الرصيف‮. ‬أنا أقيم بالقرب من سوق الأسماك،‮ ‬ولا تفارقني رائحة التحلل التي تنتشر في الموقع الذي‮ ‬يحتله،‮ ‬معظم ساعات اليوم،‮ ‬باعة جائلون‮ ‬يحتالون علي عديمي الخبرة والفقراء ليشتروا منهم بضاعتهم‮ ‬غير الطازجة،‮ ‬التي‮ ‬يجيدون إخفاء فسادها‮.‬
‮‬
بيانات إحصائية‮ :‬
أجرت منظمة حماية المستهلك الكورية اختبارات علي ستة أشياء‮ ‬يستخدمها عامة الشعب،‮ ‬لمعرفة حجم البكتيريا العالقة بها؛ وجاءت بالترتيب التالي‮ :‬
‮= ‬مقابض عربات التسوُّق،‮ ‬وُجدت بكل عشرة سنتيمترات مربعة منها‮ ‬1100‮ ‬مستعمرة من البكتيريا‮.‬
‮= ‬فأرة الكمبيوتر في مقاهي الانترنت،‮ ‬وكان بها‮ ‬690‮ ‬مستعمرة‮. ‬
‮= ‬علاّقات الأيدي في الحافلات وبها‮ ‬380‮ ‬مستعمرة من تالبكتيريا‮ .‬
‮= ‬مقابض المراحيض وبها‮ ‬340‮ ‬مستعمرة‮. = ‬أزرار الطوابق في المصاعد،‮ ‬ووجد عليها‮ ‬130‮ ‬تمستعمرة بكتيريا‮.‬
‮= ‬علاّقات الأيدي في قطارات الأنفاق،‮ ‬و بها‮ ‬86‮ ‬تمستعمرة‮ .‬
‮‬
زوجان‮ ‬يدخلان الفراش‮. ‬الذكر مقبل،‮ ‬والأنثي مولية ظهرها‮. ‬فشلت مناورات الاستمالة،‮ ‬فارتفع صوته متبرماً‮ ‬ساخطاً‮. ‬تقلبت لتواجهه صارخة‮: "‬لا أطيق رائحة فمك‮". ‬بهت‮. ‬هو لا‮ ‬يشم رائحة تنبعث من فمه‮. ‬وهو‮ ‬يستخدم معجون الأسنان بعد الوجبات،‮ ‬وقبل أن‮ ‬يدسّ‮ ‬جسمه في الفراش‮. ‬إنه لا‮ ‬يعرف أن معاجين الأسنان المحتوية علي مادة الصوديوم لورايل سلفيت تزيد من تراكم وتكاثر البكتيريا اللاهوائية علي السطح الخلفي الخشن للسان‮. ‬إنها بكتيريا لا تستحبُّ‮ ‬العيشَ‮ ‬في الهواء،‮ ‬وإنما تتغلغل في الزوائد الصغيرة الموجودة علي سطح اللسان،‮ ‬ويصعب الوصول إليها‮.‬
‮‬
في طريق عودتنا من جولة العمل الحقلية الشهرية،‮ ‬علي امتداد ساحل البحر الأحمر،‮ ‬أعطاني ورقة وطلب تعليقي عليها‮. ‬كانت نتائج تحليل عينات مياه البحر من مواقع مختلفة‮. ‬كانت السالمونيللا تفوق كل الحدود المسموح بها في مواقع لقري سياحية راقية،‮ ‬وتقل مستوياتها كثيراً‮ ‬في مواقع‮ ‬شواطئ عامة متواضعة‮. ‬تعجبت‮. ‬قال‮: ‬نتائج متكررة مؤكدة‮. ‬قلت‮: ‬تفسيرك‮. ‬ردَّ‮: ‬السياح الأجانب‮. ‬طأطأت رأسي قليلاً،‮ ‬أفكر‮. ‬لم‮ ‬يتركني أطيل التفكير،‮ ‬قال‮: ‬إنه الفارق بين استخدامهم الورق للتنظيف،‮ ‬واستخدام رشاش الماء‮ !.‬
‮‬
يحرص رئيس القسم علي أن تفتح جميع نوافذ حجرته،‮ ‬حتي في الشتاء،‮ ‬وبما في ذلك النافذتان المطلتان علي البحر‮. ‬وكنا جميعاً‮ ‬نشترك في معرفة السبب،‮ ‬وفي تكتمه.وتكررت،‮ ‬علي مدي سنوات طويلة من علاقة العمل،‮ ‬مرات انتشار روائح طعام متخمر في حجرة رئيس القسم،‮ ‬تفاجئنا ونحن داخلين إليه،‮ ‬قبل أن‮ ‬ينجحَ‮ ‬هواءُ‮ ‬البحر في تخفيفها وتبديدها‮. ‬تأففت زميلة فاجأتها‮ ‬غازات رئيسنا،‮ ‬فراح‮ ‬يضاحكها،‮ ‬وقال إنها أمرٌ‮ ‬طبيعي،‮ ‬وقد تكون مؤشراً‮ ‬جيداً،‮ ‬وأن أغلب البالغين‮ ‬يقومون بإطلاق هذه‮ ‬الغازات المعوية من عشر إلي عشرين مرة في اليوم الواحد‮. ‬
‮‬
خالفت القاعدة،‮ ‬واستقللت باصاً‮ ‬ليس به مقعد شاغر‮. ‬وقفت،‮ ‬كعادتي في المواصلات العامة،‮ ‬عازلاً‮ ‬نفسي عن كل ما‮ ‬يحيط بي‮. ‬لم تفلح حياديتي هذه المرة،‮ ‬إذ بدأت التفت إلي جانبي وأهتم،‮ ‬بمراقبة فتاة تجلس في أقرب مقعد إليَّ،‮ ‬يكاد‮ ‬يلتصق بكتفها رجل‮ ‬يقف بيني وبينها‮. ‬كان تململها واضحاً،‮ ‬فأخذت أراقب احتمالات أن‮ ‬يحاول الرجل الالتصاق بها‮. ‬لم‮ ‬يفعل‮. ‬وكانت هي‮ ‬غير مستقرة في جلستها،‮ ‬وكانت تبعد رأسها باتجاه نافذة الباص،‮ ‬وتحرك كفها أمام أنفها؛ وأخيراً،‮ ‬أسرعت تخرج منديلا ورقياً‮ ‬من حقيبة‮ ‬يدها،‮ ‬لم‮ ‬يسعفها في وقف اندفاع قيئها‮.‬
‮‬
غادرت مركز التدريب الأولي إلي الوحدة الميدانية التي سأقضي بها بقية مدة خدمتي العسكرية‮. ‬حين وصلت،‮ ‬استقبلني القائد،‮ ‬وقال لي‮: ‬أنت صاحب مؤهل عال‮.. ‬ستنضم إلي‮ "‬دشمة‮" ‬زميل في مستواك‮. ‬شكرته‮. ‬وفي طريقي إلي‮ "‬الدشمة‮"‬،‮ ‬مال عليّ‮ ‬مرافقي،‮ ‬وقال‮: ‬خذ بالك‮.. ‬صحيح أنه مؤهلات عليا،‮ ‬مثلك،‮ ‬لكنه‮ ‬يكره النظافة،‮ ‬وعنده‮ (‬تينيا‮) !. ‬ولم‮ ‬يكن بيدي أن أغيِّرَ‮ ‬شيئاً‮. ‬وبعد أسبوع،‮ ‬كنت أراجع طبيب الأمراض الجلدية‮.‬
‮‬
فاحت الرائحة‮. ‬تبينها كل السكان وهم‮ ‬يغادرون البناية ذات صباح‮. ‬قال البواب‮: ‬فأر ميت‮. ‬طلبنا منه أن‮ ‬يبحث عنه ويتخلص منه‮. ‬قال إنه حاول،‮ ‬ولم‮ ‬يعثر علي الفأر المتعفن‮. ‬قال أيضاً‮ ‬إن الفأر أكل سماً‮ ‬وضعه بعض السكان،‮ ‬ومات في شق،‮ ‬ولا سبيل إليه‮. ‬كان مالك البناية‮ ‬يماطل في تجهيز المدخل،‮ ‬والشقوق منتشرة في كل مكان‮. ‬تجمع فريق من السكان،‮ ‬وحاولوا الوصول إلي الفأر‮. ‬خاب سعيهم‮. ‬وكان علينا أن نحاول تخفيف الرائحة بالكيماويات،‮ ‬وأن نسد أنوفنا عند الدخول أو الخروج؛ حتي زالت العفونة بعد أسبوعين أو أكثر‮.‬
‮‬
الأرض كلها تراب؛ وعلينا أن ندوسه‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.