حين لطمَ مغاوري زوجته علي وجهها خارقًا الهدنة لأنها لم تسمع كلامَه وقدمت له البيضَةَ مقليةً وليست مسلوقةً كما يحب، وغادر البيت في غبشة الفجر مزهوًّا منتصرًا يغصُّ بالرجولة، لم يتخيل أبدًا أنَّ قتيلا مدفونًا تحتَ كوم السباخ سيُبرز له يده الميتة ليعاتبَه علي فعلته. تتقافزُ الضفادعُ حواليه كأنما تسابقه علي الطريق الترابي المبلل بندي الصباح، لكنه لن يمسها بسوء، علي رأسه طاقية كانت بيضاء، وبظهر يده مسح تحت أنفه. في البدء ظهرت ضفدعٌ كبيرةٌ، سمراءُ داكنةُ الخضرة، قفزت أمامَه قفزةً هائلةً قبلَ أنْ تخمدَ حركتها. تمني لو حدفها بطوبة. لعلها الآن تلتقط أنفاسها قبل معاودة القفز. ماكراتٌ هن الضفادع! مِن علي ظهر الحمار يتابع دائمًا محاولاتها التخفي عن ناظريه. إنه يفقس حركاتها! ويري أخرياتٍ كثيراتٍ. قفزنَ ثلاثَ قفزاتٍ أو أربعًا قبل أن يحودن هابطاتٍ إلي مجري الماء. غمغم: حسنًا فعلتُ بعدم إيذائهن! لحظاتٍ واكتشفَ أن الضفدع الكبيرة ما تزال سادرةً تنط علي الطريق أمامَه وتسبق الحمار. يا عبيطة، ألا تسمعين زميلاتك يتعالي نقيقُهن الزائط! لقد تركنكِ وانحدرنَ وأنتِ لا تنظرين وراءكِ. لكي تكوني البريمو يجب أن تطاعي وإلا ستضيعين. أخيرًا لمح الثلاثَ نخلاتٍ، متحداتٍ من أسفلَ متقارباتٍ في السماء. اقتربنا. ثم الجميزةَ العجوزَ التي تحاك حولها الأساطيرُ. نسي الضفادعَ. ربت علي رقبة الحمار مغمغمًا: وصلنا يا أبجر! ترجَّل من علي الظهر الهزيل. نفضَ يدًا بيدٍ وسحبَهُ خطواتٍ. طأطأ ليمرِّرَ طرفَ الحبل في حلقة المَربط ويصنعَ العقدة. اعتدلَ واقفًا. همَّ إلي البقرة والجاموسة فأودعهما مكانهما المعتاد خلف جذع توتة ضخم، مقطوع ونائم. أتي بغمر برسيم. انتبه لشيء. حدفَ طرفه إلي قدام قدميه. لاحظ كأنما طرأت علي المكان تغييرات. بل طرأت تغييراتٌ بالفعل. ليس كما تركه عشية أمس. ليس الندي هو ما يبلله فقط. لم يكترث في البداية. ربما لأن الشمسَ الناهضةَ كانت في عينيه. شعاعُها واهنٌ كطفل في الثالثة، لكنَّ العينين عليلتان. استدار ليرمقَ الكومةَ ويتفحصها بعنايةٍ أكثر. هو حتي الآن لم يتوجس، ثم بدأ يلاحظ أن جسرَ الجنابية مرشوشٌ بماءٍ ثقيل، بطول مترين تقريبًا! مياهٌ كثيرة تمَّ دلقُها هنا. تساءل متعجبًا متي حدث ذلك ومن فعله وما الهدف؟ لاحظ أن الأرضَ في كومة السباخ منبعجةٌ أكثرَ من اللازم. رفعَ حاجبيه. علا نهيقُ الحمار الجائع. حدفَ إليه حزمةَ برسيم وهو مازال يبرطم بالشتائم. خطا إلي الفأس فالتقطها بتكاسل. سيهمُّ بتسوية المكان وإنْ كان هذا غيرَ هام ولا مستعجل. يريد في الحقيقة أن يلين ظهره الذي جمدته الرطوبة. ضرب أولَ ضربةٍ بهدوء ودون عنف فانغرس سلاحها في جسد التربة دون أدني مقاومة. تخشب في وقفته رافعًا حاجبيه مفنجلا عينيه كأنما رأي الموت. يخيل إليه أنه لمح يد إنسان، لكنها تلاشت تحت انهيارات السباخ. لو كان حدف الضفدع أو أصابها بسوء لقال إنها السبب. لم يرفع فأسه إلي أعلي مرة ثانية وإنما نزلت بها يده برفق وتوجسٍ فوق المكان المنبعج كأنما يجسُّ دملا كبيرًا. ضغط بها قليلا فتأكد أن الكومة لينة غير صلبة. أكد لنفسه أن فيها قتيلاً سائحًا في دمه. لكنه طلب من الهموم أن تنتظر قليلا. نزع البرذعة من علي الظهر الهزيل وافترشها. فك الصرة وفردَها فتمخضت عن رغيفٍين طريين هرسَ فيهما قطعة جبن قديمة. بدأ يقضم ويفكر. عيناه دون إرادة منه تحسستا الأرض المرشوشة فأيقن أن سرَّ دلق الماء هو إزالة آثار الدماء من علي طريق الجسر ولا شيء غير ذلك. مازال يلوك الرغيف. لا يوجد تفسير آخر. توقفت اللقمة في زوره فرفع القلة واستقبل خيط الماء بفمه عن بعد. المصائب تدق بابه فهل يفتح لها؟! عاد ليمسك الفأس فشعرَ بيده تتراخي. أسندها مكانها وحوقل. دار بعينيه ليتأكد أنه وحدَه في الناحية. سحابةٌ باهتةٌ غطت وجهَ الشمس لحظات. هبت ريحٌ باردةٌ حركت البرسيمَ الأخضر النديان تحت الضوء اللين، لكنها لم تطفئ حريقًا بدأ يشب داخله. رغمًا عنه ذهبت عيناه إلي المقابر المحدوفة إلي يمين الرؤية. أحقا رأي يد إنسان مقتول؟ وهل ذلك الشيء الذي لمع لحظة ثم خفت متلاشيا في الروث خاتم ذهبي؟! أمسِ عندما سألته امرأته أن يترك نقودًا لاستبدال أنبوبة البوتاجاز، صرخ في وجهها: ألا تتَّقِين الله؟ من أين وأنتِ تعرفين البيرَ وغطاه؟ فهل يكون هذا رزقًا ساقه الله إليه ليصالح فواكه؟! إنه لم يمس الضفادع بسوء. طوح بصره تجاه العشة المنعزلة علي رأس الغيط الجواني وقال: أجلسُ فيها مع نفسي أفكر في الذي سأفعله. سأجتر أفكاري كبقرة. لا أحد معي يدلني ويرشدني وأنا قليل الحيلة. قبل أن يغادر مكانه قام بإخفاء ما يحمله الإصبعُ من نعمة أو نقمة حتي لا يلمحه أحدُ المارة وتبقي مصيبة. لماذا يقصد عشة الغير؟ سيستكين هنا تحت الجميزة. المقابر بيضاءُ ورمادية تنام في هدوء لئيم تحت أشجار قصيرةٍ مستسلمة، بينما راحت الثلاثُ نخلاتٍ يرقبن المشهد في صمت مراوغ، أما الجميزة ففي الليل فقط ترتدي ثوب الأساطير وتفتح شاشات الرعب. لم يكد يجلس لحظاتٍ ويدرب يده علي الإمساك السريع باليد المستكينة ليخلص الخاتم في لمح البصر من الإصبع المتخشب، حتي هبَّ مذعورًا. توجه إلي العشة ونعيق الغربان يلاحقه. هل سيستبدل بالأنبوبة الفارغة أخري مملوءة، ويشتري للولد الذي بدأ إصبعه يبص من حنك حذائه حذاءً جديدًا؟ العشة علي مسافة مئة متر من هنا، وقد تزيد قليلاً. في منتصف المسافة توقف لأنه لمح علي الأرض زجاجات مياه غازية فارغة. ليست زجاجاتٍ وإنما علب صفيح لها فتحة صغيرة في سقفها. تراءت له أشباح تسأله عن قصة هذه العُلب وعليها بصماته إن أمسك بها. المصايب تدق بابه بعنف. والله العظيم ما لي دعوة يا باشا. أنا لقيتهم مرميين فلمستهم. فكر أن يقذف بالعلب إلي بطن الترعة، لكنه عاد وتراجع؛ فالعدالة ربما تحتاج لمثل هذه الأشياء لإثبات شيء. ضحك من نفسه: لو ألقيتها إلي الماء ستطفو وتسافر! بصق وهو يدعو علي المتوحشين الذين طفحوها. لم يحصب الضفادع ولو بحصوة صغيرة. عاد إلي المربط ودس العلب في كوم البرسيم كي لا تقع عليها عين إلا بإذنه، أمسكها واعيًا بطرف جلبابه، التليفزيون يعلمنا الكُفت! رأي بعد ذلك أن يقصد العشة. من المؤكد الآن أن فواكه حسبنت وربنا استجاب لدعاها!لام نفسه لأنه لطمها بالكف علي وجهها. مئات الأكف الغليظة تتأهب لتسقط علي صدغه ولا يجرؤ أن يرفع يده ليحتمي! كان قد عزم علي ألا يصفعها علي الوجه منذ أسقط لها إحدي أسنانها الصغيرة في العام الفائت مما أحدث فجوة في ابتسامتها. كانت تبكي وتقول له: إلا الوشِ! إلا الوِش!. فصار بعد ذلك كلما تضايق منها يزغدها بالبونية في كتفها، أو يرفع في وجهها فردة البلغة مهددًا، وهذا الصباح عندما طلب منها أن تسلق البيضة أحضرتها إليه مقلية متوردة الوجه في الطاسة السوداء، وإذ وبَّخها قالت ووجهها مقلوب: سأسلق لك غيرها! هوَي بكفه علي محياها خارقًا الهدنة وهو يصرخ: كان من الأول!! اكتفي بالرغيفين اللذين أخرجتهما له من تحت خصلات البرسيم ليظلا طريين. دس يده في البلاص واستخلص قطعة الجبن ثم مسح يده في ملاءة السرير وسط تأففها مما يفعل. والله العظيم يا بيه، وحق جلال الله، ما أعرف حتي الآن ما تحت كوم السباخ، وهل حقا يرقد قتيل؟! قالت: ربنا ينتقم منك!!. يا عبيطة استغفري! إذا انتقم الله مني ودخلتُ السجن- لا سمح الله- ستصيعين أنتِ والأولاد! رأي ابنه الصغير علي ذراعها، والأكبر منه يمسك ذيل جلبابها الأسود، وتتحدر دمعتان من عينيها وهي تطلب منه من خلف الأسلاك أن يشد حيله! طمأن نفسه: "والله لا أهون عليها!". الفصل الأول من رواية تصدر قريباً بعنوان "شظايا الجريمة،