بداية شهر أكتوبر الماضي، نشر سيد العديسي - علي صفحته الشخصية علي الفيسبوك - نصاً من ديوانه الجديد (أموتُ ليظل اسمها سراً) وهو: "كأي صعيدي، لا أستطيع قول: أحبك/ وكلما قررت القفز علي التقاليد لأقولها خرجت: كيف حالك؟/ فاعذريني لأنني كيف حالك جداً"، ليجد بعد ساعات إعجابات هائلة بالنص، من أصدقائه، ومن آخرين لا يعرفهم. تفاجأ قليلاً، فهذه أول مرة يتم تداول نص له بهذا الكم. وكلما مر يوم زاد عدد المعجبين، حتي وصلوا إلي آلاف. ومن تابع ذلك، يعرف أن لا تهويل في الأمر. لم يكن يهدف سيد العديسي من نشره لهذا النص أن يحصد متابعين جددا، فقط كان يُعلن عن ديوانه، فهو كغيره من الشعراء ينشر نصوصه علي الفيسبوك، إلي أن حدث ما حدث، وجعل الأنظار والأفواه تتجه نحوه. البعض - وأقصد هنا الشعراء - لم يعجبهم النص، أو بالأحري وجدوا أنه لا يستحق كل هذا التداول، وأن المراهقين وحدهم الذين تهافتوا عليه. في المقابل كان الشاعر الصعيدي فرحاً بذلك، إذ رأي أنه استطاع أن يصل إلي القارئ العادي، وهو ما كان يهدف إليه، من خلال ما سماه بالكتابة البسيطة. في هذا الحوار، تحدثنا معه عن النص وعن الديوان الذي يعد تجربته الثانية في قصيدة النثر، بعد ديوان (يقف احتراماً لسيدة تمر)، إذ كان يكتب الشعر العامي من قبل، وله في ذلك ديوانان هما (قبلي النجع) و (بابتسامة ندل بيموت). أريد أن أبدأ معك بقضية مؤرقة للبعض، خصوصاً بعد أن تداول الكثيرون نصك "كيف حالك جداً" علي الفيسبوك.. هل إحساس الشاعر بقيمة ما يكتبه مُرتبطة بوجود عدد كبير له من القراء؟ صار وجود الفيسبوك مهما في حياتنا، بدليل أنه كان ومازال محرضاً في النواحي السياسية والحياتية. وفي السنوات الأخيرة الفائتة عاني الشعراء من ضيق منافذ النشر، وجاء الفيسبوك كحل بديل لهم، إذ أصبح من السهل جداً أن ننشر كل يوم قصيدة، وأن يصل الشاعر إلي القارئ ويتفاعل معه. صحيح أن لهذا سلبيات، من بينها سرقة القصائد، والخلط بين الخواطر والشعر، ومجاملة الشاعرات، لكن علي الأقل لم يعد هناك شاعر يشكو من عدم نشر أي مطبوعة لقصائده، وهذا يكفي. أنا رجل ليس له في الفيسبوك كثيراً، وعلاقتي به ليست قوية، لذلك لا أعتبر نفسي منتجا فيسبوكيا، أنا متواجد من قبل، أشارك في الندوات والمؤتمرات، لكنني لا أنشر قصائدي في الصحف والمجلات، لأن عملي كصحفي أشبع لديّ حاجة النشر، فقط أضع علي الفيسبوك قصائدي، وحين وضعت نص (كيف حالك جدا) حدث ما يشبه الانفجار، وجدته ينتشر سريعاً، ليس فقط في مصر بل في الدول العربية. وكان هذا مفاجئاً لي. لكن لم يجعلني أحس بقيمة ما أكتبه أو بقيمتي كشاعر، لأنني أحس ذلك دائماً، فأنا أكتبُ ما يرضيني، أكتبُ عن حياتي البسيطة، صعيدي لا يزال متمسكا بهيئته وبملامحه القديمة. تداول النص جعلني أدرك أن المشكلة لم تكن في الشعر، إنما في بُعد الشعراء عن المتلقي العادي، فمن وقت أمل دنقل لم يعد يهتم الشعراء بالقارئ، وصارت هناك فجوة كبيرة بينهما، ما جعل الكثيرين يقولون أننا في زمن الرواية، في حين أن الأزمة ليست أزمة شعر، إنما أزمة شعراء مهمومين فقط بتفريغ ما بداخلهم. كما أنني لمست أن النص حل مشكلة اجتماعية لدي الشباب الذين لا يستطيعون التعبير عن حبهم، فوجدوا فيه طريقة لذلك، دون أن يشعروا بالحرج، أو الخوف. البعض قال إنك تكتب للمراهقين.. ما ردك؟ وهل الكتابة للمراهق تُلحق العار بالشاعر؟ رغم أنني لا التفت إلي هذا الكلام، ولست معني بالرد عليهم أو بالدفاع عن نصي، لكنني سأجيب عليكِ. إذا قصدوا أنني أكتب للمراهق الفكري أعتقد أن هذا تطاول عليّ، أما إذا قصدوا الذين بلغوا سن المراهقة، فالثورة أثبتت أن هؤلاء لديهم وعي لا يمكن إغفاله. أنا لا أكتب لسن معينة، أعبر عما بداخلي بطريقة بسيطة كي تصل إلي الناس. وهذا ما يعنيني. كما لا توجد قصيدة نثر موجهة للمراهقين لأنها آخر صورة للشعر. لو أردتُ حقاً أن يقرأني المراهقون، لكنت كتبتُ شعرا عموديا أو أغنية. أتمني من الذين يصدرون أحكاماً مسبقة، أن يقرأوا ديواني (أموت ليظل اسمها سراً)، إن لم يجدوه فارقاً، يتناقشوا معي، إنما أن يتطاولوا عليّ لأنني نجحت في الوصول إلي القارئ العادي، فهذا ما أرفضه. حسناً، في هذا الديوان تناولت الحب عند الرجل الصعيدي وكيف يعبر عنه بطريقته الخاصة، أيصل الأمر إلي أن يقول الحبيب لحبيبته "أحبك كبقرة"؟! أقول في النص "أراكِ يا حبيبتي/ كما يري الفلاح الجمال في هذا العالم/ لذا أحبك كبقرة". دعينا نتعامل مع كل نص علي اعتبار أنه منتج في حد ذاته، وأنه عالم له منطقه الخاص. البقرة تكاد تكون بالنسبة للفلاح مصدر رزقه الوحيد، هي التي تجر له المحراث، وتدير له الساقية. هي التي تمنحه الخير، حتي مخلفاتها يستخدمها في أمور كثيرة. ومن خلالها يري الجمال، فحين يري الفلاح عيون بنت جميلة، يقول "عيونها عيون بقرة". لا أعرف لماذا يتقبل الناس أن الهنود يعبدون البقرة، ولا يتقبلون أنها رمز الجمال لدي الصعيدي. لكن أي قارئ غير صعيدي لن تصله كل هذه الدلالات، وهنا أريد أن أسألك، لماذا لا يخلع غالبية الكُتاب القادمين من مدن الصعيد عباءتهم الصعيدية؟ تستخدمون مفردات لا يفهمها سوي أهل الصعيد.. أمل دنقل - مثلاً - لم يفعل هذا. الشعر يعبر عن قضية، وهذه عظمته. أمل دنقل كانت قضيته الوطن، ولم يكن مهموماً بالقضية المحلية وإظهار البيئة الصعيدية، لذا استخدم المفردات التي بمقدورها أن تصل لكل أحدٍ، وإن كان فعل عكس ذلك، لكانت اللغة عائقاً له. بالنسبة لي، أحاول التعبير بطريقة يفهمها الآخرون وفي نفس الوقت يدركون مدي خصوصيتي، لأنني إن كتبت عن بيئة أخري أو عن غير الصعيدي، لن أكون صادقاً. فأنا أكتب عن القرية.. لا المدينة، لأنني أعرف الأولي، وقضيت فيها جزءاً كبيراً من حياتي. كما أن هناك شيئا مهما لدي كل صعيدي، وهي أن علاقته بالبيئة تكون بلا وسيط، علاقة مباشرة، فيتعامل مع الأرض والناس والطبيعة والمخلوقات من حوله، ويظل متأثراً بها لآخر عمره. السؤال: ما الذي يدفعني إلي التخلي عن الموروث الثقافي، وتجربتي، والحكايات التي عرفتها من الجدة والعمة؟ حين استخدم المفردات المتداولة في الصعيد، وأتناول العادات، اعتقد أن هذا شيء يميزني. لا أقصد أن يتخلي الشاعر عن موروثه الثقافي، ما أقصده أن يضع في اعتباره أن هناك قراء من بيئات مختلفة و بلاد أخري.. هذا إن كان يعنيه فعلاً الوصول إلي القارئ. كما قلت لكِ، مشروعي الشعري قائم علي إظهار الصورة الحقيقية للصعيدي، لأن الإعلام والسينما أظهرا الصعيدي علي أنه إنسان فظ لا يعرف الحب، قاتل وقاطع طريق، وفي ديواني أقول (سأحبك كقاطع طريقٍ/ يعودُ منهكاً كل ليلةٍ ليبكي عند قدميكِ). الصعيدي إنسان مختلف، ومظلوم. لذا أريد أن أعطي للقارئ فكرة صحيحة عنه. عن