من يظن أن الفنان التشكيلي يعيش في برج عاجي بعيد عن الواقع هو بلا شك لم يتأمل أعمال كلوحات الفنان فتحي عفيفي الذي امتزجت روحه بالواقع وانغمس بكيانه في عالم العمال فتفرد إبداعيا من منطلق كشف المكنون في منطقة تخصه .. فتخاله في تلك اللوحات التي قدمها في معرضه الأخير "العودة إلي المصنع" بقاعة أفق بمتحف محمد محمود خليل وحرمه يتحدث بلسان الماكينات العمالقة ويهبها الحياة أو بحسب تعبير د.هبة الهواري يقدم "مخلوقاته الصناعية". تتسم أعمال الفنان فتحي عفيفي بالانحياز للطبقة المتوسطة التي تُشكل شريحة العمال سوادها الأعظم .. ويعكس عالمه الخاص إيمانه بحقوق هذه الطبقة وأفكارها وأحلامها وطموحاتها فتتمركز لوحاته حول شخصية العامل وقد انطبعت علي تقاسيم وجهه مشاعر كثيرة مختلطة بين الأمل والمعاناة في مشاهد تصويرية شديدة الدلالة ومُعبرة عن واقع الكادحين والبسطاء من أبناء هذه الطبقة. في وسط القاعة الضخمة حيث السكون التام بإمكان الزائر أن يسمع هدير الماكينات العملاقة وأجراس الدخول إلي المصنع والخروج منه، لكنه بلا شك سوف يتأرجح بين نقيضين من المشاعر، واحدة تمجد لقيمة العمل ومكانة العامل وعلاقته الوطيدة بالآلة كجزء من حياته، حين تصبح الماكينات أبناء أصحابها .. تلك المشاعر التي انعكست في اللوحات التي تصدر العامل بطولتها .. ولم يفوتني أن أقف قليلا أمام تلك اللوحة التي صورت ماكينات الخياطة الصغيرة التي تحمل اسم "نفرتيتي" وكأنها تؤكد علي ربط مفهوم التصنيع بالجذور والقومية والفكر الاشتراكي وكرامة ذوي الياقات الزرقاء. لكن بعض اللوحات الأخري علي النقيض تؤكد علي شراسة تلك الماكينات التي تجدها علي استعداد تام لأن تمحو قيمة الإنسان في مقابل هيمنة الرأسمالية ، ففي ثلاث لوحات متتالية تخيلت من علي بعد أنها لشخوص حية متكئة إلا أنه مع الاقتراب يتضح أنها لماكينات احتلت مساحة اللوحة كمعادل رمزي لسيطرتها الكاملة في حين يتراجع دور الإنسان ليتضاءل ويظهر العمال في حشود كأسراب النمل بلا قيمة فردية .. أو كما تقول الهواري في تحليلها لإحدي اللوحات : يتحول الإنسان إلي كائن بلا هوية، إلي رقم ينتمي لهيكل حديدي ضخم يشغل فراغ هذا الكهف الغرائبي القديم .. وحوش من سواد وجوم وانتظار .. استلاب فادح تحت وطأة الكيان المهيمن. إن علاقة الإنسان بالآلة في لوحات فتحي عفيفي هي علاقة معقدة للغاية تبدأ بالحب وقد تنتهي بانسحاق أو العكس، لوحاته أفلام صامتة تعيد إلي الأذهان رواية أوقات عصيبة لتشارلز ديكنز ومداخن المصانع العملاقة تغطي المدينة بالضباب وتغطي أرواح قاطنيها بالجمود واليأس .. أو ربما أفلام شارلي شابلن التي وجّه في كثير منها انتقادات حادة إلي التصنيع لا سيما في فيلمه "الأزمنة الحديثة" الذي تطرق من خلاله لتغير آليات التصنيع والانتاج وسحق الإنسان وسعادته.. ومع ذلك هي أيضا لوحات تعيد إلي الروح النزعة القومية والاحساس بقيمة التصنيع ودوره في بناء المجتمع. لعل ولع فتحي عفيفي بعالم الماكينات لم يأت من فراغ فقد حصل علي دبلوم المدارس الثانوية الصناعية 1968 كما أنه شغل منصب أخصائي فني بالمصانع الحربية 54 الحربي ، كما درس الفن حيث قام بدراسات حرة بالفنون الجميلة أعوام 1974،1975،1981. وقدم عشرات المعارض في مصر وخارجها. ولأكثر من أربعين عاما ظل عفيفي يرسم "المصنع" بنفس الرؤية والجمالية التي اكتسبها منذ أن وطأت قدماه مصانع الانتاج الحربي عام1968. حيث يقول الفنان إيهاب اللبان عن ذلك: لا يزال ينظر إلي المصنع علي أنه ذلك المحراب الذي تتوهج فيه قدراته، يعمل وينتج بكل طاقته ويري في هذا الانتاج ثمار خروج مجتمعه من بوتقة العوز والاحتياج.. مضيفا أن مفردات لوحاته جمع فيها بين متناقضات عدة "الجماد والإنسان، الروح والمادة ، الأبيض والأسود، المتضخم ومتناهي الصغر". ومن جانبه يقول د. خالد سرور أن عفيفي استطاع أن يُحقق في نهجه هذا نجاحات وتميز جعله امتداداً لجيل من الأساتذة الكبار أمثال عبد الهادي الجزار وحامد عويس وإنجي أفلاطون ... وتتميز لوحاته بمسحة إنسانية يحرص من خلالها علي التعبير عن هذه الطبقة المكافحة وحياتها اليومية بأدق تفاصيلها بلحظات كدها وعرقها .. بأفراحها وهمومها وطموحها .. في مشاهد فنية درامية متكاملة تطرح هذا العالم لمزيدٍ من الحوار والبحث والتأمل.