أكتب حتي لا يظن القارئ أن نموذج هذا التباهي الذي يحاكي »الطواويس» هو نموذج الفنانين الحقيقيين عندنا من حق هذا الممثل الشاب أن يحتفي بنجاحه، وأن يسعد باقبال الجماهير علي أعماله الفنية. ومن حقه أن يتمتع بثمار هذا النجاح وأن يسعد بالعيش في رغد مما رزقه الله. ومن حق هذا الممثل الشاب أن يكرر الاعلان عن أنه قد أصبح يحصل علي أكبر أجر بين نجوم التمثيل.. ومن حقه أن يفخر بذلك خاصة إذا كان يسدد الضرائب علي المبالغ التي يعلنها، وليس علي عقود مضروبة يتهرب الكثير من الفنانين وغير الفنانين بها من حق الدولة والمجتمع. ذلك كله أمر لا بأس به، لكن البأس والبؤس يأتيان معا حين يشطح العقل ويغيب الذوق السليم، ويقف الممثل الشاب وسط اسطول من السيارات الفارهة معلنا كل بضعة أيام أنه ضم سيارة جديدة »مثل الرولزرويس» ثمنها يكفي لإطعام قرية بأكملها لشهور!! قد يكون هذا الاسلوب في الظهور الاعلامي مناسبا في بلاد أخري ينفق فيها النجوم بمثل هذه الطريقة أو بطرق أكثر سفاهة، لكن الأمر هنا يختلف في مجتمع يعيش أكثر من نصفه تحت حافة الفقر، ويتصارع فيه الناس -بسبب جشع التجار وسوء الإدارة- لشراء كيس أرز أو كيلو سكر!! وللأمانة.. فإن هذا السلوك ليس فرديا، ولا يرتبط ببعض نجوم الفن »مثل هذا الممثل الشاب» فقط.. ولكنه يمتد في شرايين المجتمع، فنجد رجل أعمال يقيم فرحا لابنه أو ابنته، فيترك كل فنادقنا ومدننا الجميلة ويذهب إلي أوروبا، وينفق -كما نُشر- عدة ملايين من الدولارات في استقبال المعازيم الذين نقلتهم الطائرات الخاصة، إلي الفنادق الفاخرة التي تم حجزها لهم، وإلي الاحتفالات الصاخبة التي تليق بالمقام!! وبالطبع فإن الرجل حر في فلوسه وما يصنع بها، ورفاقه أحرار فيما يفعلون إذا كانوا يكسبون بالحلال، ويؤدون الضرائب، ولا يمارسون الاحتكار.. لكن السؤال يبقي: هل هذا هو السلوك الذي يلائم ما يمر به الوطن؟ وهل هذا هو ما يحقق المصالح الخاصة لهؤلاء الذين أعطتهم مصر الكثير، ولم تطلب منهم إلا أن يكونوا علي قدر المسئولية، لأنهم سيكونون أول ضحايا هذا السلوك البائس والمستفز؟! وقارنوا هذا السلوك، بما فعله عروسان شابان أقاما حفل زفافهما في بساطة أخاذة، وبدون صخب، وعلي أنغام موسيقي مسجلة هادئة كان طلبهما من الأصدقاء أن يضعوا ما يريدون المساهمة به كهدية زفاف لهما في صندوق تجمع فيه التبرعات لتذهب إلي مستشفي الدكتور مجدي يعقوب، وتساهم في الجهد العظيم الذي يقوم به هذا الرجل النادر في هذا الزمان. ولا أريد أن أعود إلي نماذج في دول اخري للعطاء الجميل. فلدينا -والحمد لله- نماذج كثيرة لا تنتمي لهذا النوع من السلوك المستفز لمشاعر الناس، ولدينا الكثير ممن أعطاهم الله فلم يبخلوا بفعل الخير، ولم يتأخروا عن أي نداء للمساهمة في عمل اجتماعي، ولم يتهربوا من حق الدولة في الضرائب، ولم يتحايلوا للحفاظ علي ما نهبوا من المال العام، ولم يلجأوا لاستفزاز ملايين الناس بسلوكهم الشاذ، ولا بنشر الاعلانات عن كرمهم الواسع الذي يوزع بضعة آلاف كيس من السكر لكي يغطي علي نهب الملايين في سلعة أخري أهم!! ولا أريد هنا أن استغرق في الحديث عن عالم رجال الأعمال المليء بالألغام. ولنبقي في عالم الفن ونجومه. فالفن خير وجمال قبل أي شيء. وإذا كنا نتحدث عن هذا الممثل الشاب وسلوكه الاستفزازي، فلأننا نريد من الفن أن يعود لدوره القيادي، ونأمل في نجومنا أن يكونوا علي الدوام القدوة والمثل. ولأننا نتذكر اجيالا من فنانينا الكبار وضعوا الوطن قبل كل شيء، ولم يبخلوا يوما بالعطاء، وكانت جائزتهم الكبري أن يكونوا جزءا من رسالة التنوير وثورة التجديد التي قادتها مصر علي مدي السنين.. بالثقافة والفن، وبالعلم والتقدم، وبتقديم النموذج والرسالة لعالم عربي، يبحث عن الاستقلال والوحدة، ولعالم اسلامي يريد التصدي لدعاوي التفرقة ومؤامرات الإرهاب الخائن للدين وللوطن. في مثل هذه الأيام قبل ستين عاما كنت صبيا صغيرا في مدينة اسمها »بورسعيد» كتب الله لها أن تكون هي الفداء للوطن، وهي العنوان الرئيسي لمعركة استرداد قناة السويس، وهزيمة أكبر امبراطوريتين استعماريتين في ذلك الوقت، وفتح الباب أمام مصر لتبني السد العالي وتقيم نهضتها، وللأمة العربية لكي تتحرر وتنال الاستقلال، وتبدأ في استرداد ثرواتها المنهوبة بعد أن فتحت مصر الطريق بتأميم القناة وبهزيمة قوي العدوان. في أيام الحرب، وفي فترة الصمود ضد قوات الاحتلال، كانت الاذاعة هي رفيقنا الوحيد، ووسيلتنا التي لا يوجد غيرها للاتصال بالعالم، وكان صوت عبدالناصر وهو يعلن من الأزهر أننا »سنقاتل» يتعانق مع صوت الفن، وهو يطمئننا علي أن مصر كلها معنا، وأن العالم كله بجانب مصر. كانت أم كلثوم تجري بروفات »والله زمان يا سلاحي» بينما غارات طائرات الأعداء تضرب القاهرة. وكان صلاح جاهين يسرع لمبني الاذاعة وهو يكتب »حنحارب» فيستلمها سيد مكاوي ويلحنها في لحظات، ويدخل الاستديو ليسجلها مع كورس معظمه من العاملين في الاذاعة، وكان الموسيقار محمود الشريف ينجز نشيد »الله أكبر» في ساعتين ويسجله مع المجموعة بعد أن تعذر وصول المطرب بسبب الغارات »وأظنه كان كارم محمود» ليصبح أعظم نشيد وطني في تاريخ مصر بعد نشيد العبقري الخالد سيد درويش »بلادي.. بلادي». لم يكن فنانونا الكبار يومها يتباهون بأجورهم الكبيرة أو بسياراتهم الفاخرة!! كانوا يتسابقون لأداء واجبهم الوطني، وكانت مواهبهم العظيمة تتفجر للتعبير عن الصمود والمقاومة، وللتأكيد علي أن النصر قادم، وليكونوا جزءا من ضمير وطني جامع للمصريين جميعا، يطلب النصر من أجل الوطن، أو الشهادة في سبيله. لو تذكرنا ما أبدعه الفنانون المصريون والعرب في هذه المرحلة لادهشتك الحصيلة.. بداية من »دع سمائي» و»يا أحلي اسم في الوجود يا مصر» ومرورا بالاحتفال بالنصر من خلال »عاد السلام يا نيل» أو »أمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد» ثم وصولا إلي قلب المعركة ونحن ننشد »قلنا حنبني وأدي احنا بنينا السد العالي». ثم إلي حيث كنا نغني للأمل مع »التصنيع الثقيل» الذي جعله صلاح جاهين والطويل وعبدالحليم حافظ أنشودة للكادحين في زمن البناء. وفي 67 غنينا للأمل، ثم أنشدنا للصمود حتي تحقق الانتصار. وفي كل الأحوال كان الفنان المصري في المقدمة، وكان الغناء الوطني والابداع الفني لا يفترقان عن الجهد الذي يقدمه الفن والابداع والثقافة لكي يكونوا النموذج في افتداء الوطن.. وليس في اقتناء السيارات الفارهة أو التباهي بأجور تصل الآن لعشرات الملايين.. واللهم لا حسد!! أكتب حتي لا يظن القارئ أن نموذج هذا التباهي الذي يحاكي »الطواويس» هو نموذج الفنانين الحقيقيين عندنا. العكس هو الصحيح. درس أم كلثوم مازال حيا أمامنا، وهي تطوف العالم لتجمع ما يدعم صمود مصر بعد العدوان. تسابق الفنانين لكي يذهبوا إلي الجبهة ليدعموا صمود جنودنا البواسل ولكي يبعثوا الأمل في النصر القادم بإذن الله وارادة الشعب. لم يكن أحد منهم يطلب اجرا عما يقدم من جهد. ولم يكن أحد منهم يتأخر عن أداء الواجب الوطني في أي حال. الفنان قدوة. وفنانونا كانوا دائما في مقدمة الصفوف حين يحتاجهم الوطن. والأجيال الحالية منهم لابد أنها تذكر كفاح اجيال سابقة وتضحياتها.. سواء في سبيل الفن أو في معارك الوطن. ومازلنا نتذكر كيف نام بليغ حمدي علي سلم الاذاعة حتي فتحوا له الاستديوهات ليسجل ألحانه التي لا تنسي في حرب أكتوبر.. ومازلنا نتذكر كيف وضع نجم مثل فريد شوقي كل ما يملك لكي ينتج فيلما عن بورسعيد ليعرض بعد بضعة شهور من انتصارنا في معركة 1956.. ومازلنا نتذكر كيف كافح المخرج محمد فاضل ونجم نجوم السينما الراحل الجميل أحمد زكي لكي يخرج فيلم »ناصر 56» إلي الوجود في ظل ظروف صعبة. ولست أشك في أن أجيالا جديدة من المبدعين مستعدة لأن تقدم مثل هذه التضحيات وأكثر. لكن المشكلة أن الكثيرين لا يدركون أننا في حرب حقيقية ينبغي أن نخوضها جميعا متكاتفين، واننا أمام موقف يستلزم من الجميع إدراك مشاعر الملايين من المطحونين بالغلاء، والصامدين أمام دعاوي من يستهدفون الوطن. والمشكلة أن القيم الاستهلاكية قد غزت المجتمع، وأن مقياس النجاح قد أصبح فقط ما يحققه الانسان من ثروة، وليس ما يقدمه من علم أو ما يبذله من جهد أو ما يحققه من نفع للمجتمع. والمشكلة -قبل ذلك كله وبعده- أننا نحتاج لجهد المبدعين لكي يساهموا في تغيير هذه المفاهيم، ولكي يستخدموا ما وهبه الله لهم من نعمة القبول لدي الجماهير لاقناعها بأن أمامنا طريقا صعبا لابد أن نجتازه معا لكي نبني الوطن الذي نحلم به. فهل يفهم ممثلنا الشاب الناجح ذلك.. أم أن المرض قد استعصي علي العلاج؟! الأهلي والزمالك.. قبل »كوبر» أرجو أن يتجاوز الزمالك عثرة ضياع البطولة الافريقية بسرعة، وأن يستعيد الأهلي مستواه الذي تأثر بتغيير المدربين، وسوء اختيار اللاعبين المحترفين في صفوفه. لاعبو الفريقين هم عماد المنتخب، خاصة مع عدم مشاركة بعض لاعبينا المحترفين في الخارج »وفي المقدمة رمضان صبحي» مع أنديتهم بصورة منتظمة، مما يؤثر بالسلب علي مستواهم. في عام 1990 كان ارتفاع مستوي لاعبي الفريقين هو الطريق للوصول لكأس العالم تحت قيادة الجوهري. وفي المرات التي حصلنا فيها علي بطولة افريقيا كانت سيادة النادي الأهلي علي أندية القارة الافريقية هي البوابة التي عبرنا منها إلي البطولة بقيادة الكابتن حسن شحاتة. الخواجة »كوبر» لن يصنع المعجزات. لكن لاعبينا قادرون -بإذن الله- علي تحقيق الحلم الذي يحتاج للكثير من الجهد والتركيز قبل مباراة غانا المهمة والحاسمة. مع كل دعوات التوفيق للمنتخب ليسعد الملايين ويستعيد الهيبة للكرة المصرية. »المصور».. وذاكرتنا الوطنية العدد الخاص الذي أصدرته الزميلة »المصور» في الذكري الستين للعدوان الثلاثي علي مصر عام 1956، عدد استثنائي يستحق التحية. استعادة الذاكرة الوطنية هي مهمة لابد أن نوليها كل اهتمامنا. أعوام طويلة مضت ومحاولات تزوير التاريخ لا تتوقف. حتي من داخل صفوفنا -للأسف الشديد- كان هناك من يستهين بمعركتنا العظيمة التي استعدنا فيها قناة السويس وأنهينا فيها اكبر قوي الاستعمار في ذلك الوقت. وكان هناك من كان صهيونيا أكثر من الصهاينة وهو يهين تضحيات الشهداء ويهاجم حرب الاستنزاف متصورا انه بذلك يثأر من عبدالناصر، متجاهلا انها كانت حرب جيش وطني يسطر أروع صفحات التضحية، وشعب تحمل كل شيء من أجل النصر القادم والعبور العظيم الذي كانت مصر كلها تعمل من أجله وتنتظر يومه المجيد. كل جهد لاحياء الذاكرة الوطنية هو تذكرة عبور لمستقبل أفضل، وتأكيد علي اننا حين نقرر ونستعد ونضحي.. فإننا نحقق ما نريد. لغتنا الجميلة.. وخسارتها الفادحة في سنوات الصبا الباكر كانت لنا مواعيد ثابتة لا يمكن أن تفوتنا مع الاذاعة التي كانت تسليتنا الوحيدة ووسيلة الثقافة الأساسية. القرآن الكريم بصوت الشيخ رفعت، وحفل الخميس الأول من كل شهر مع أم كلثوم، ثم الموعد الجميل مساء الأربعاء مع حديث طه حسين الذي أحببنا من خلاله اللغة العربية وارتبطنا بالادب العربي. رحل طه حسين عن دنيانا، فكان لنا موعد آخر مع »لغتنا الجميلة» وفاروق شوشة مساء كل يوم قبل أخبار الحادية عشرة مساء، اجيال عديدة أحبت اللغة العربية واستمتعت بصوت فاروق شوشة وهو يقدم لها أجمل الشعر واعذب النثر بصوت كالغناء وبإحساس رهيف يأخذك من هموم الدنيا إلي متعة معانقة الكلمة الجميلة بالحب الذي تستحقه. يرحل عنا فاروق شوشة، وأجيالنا الجديدة في أمس الحاجة إلي من يدخل اللغة العربية إلي قلوبها بعد أن تحولت عملية التدريس إلي اهانة للغة، وتحولت المقررات الدراسية إلي وسيلة لابعاد أطفالنا عن لغتهم، وسادت »الرطانة» و»التطجين» في حديث من يفترض فيهم أن يكونوا قدوة في اتقان اللغة والتعبير السليم بها. يرحل فاروق شوشة ويبقي شعره. وتبقي »لغتنا الجميلة» تبحث عمن يعوضها ويعوضنا عن صوته الكاشف لسحر اللغة وجمال البيان. يرحمه الله. آخر اليوميات أحب إسماعيل يس وهو يغني مونولوجاته الجميلة. صوت رائع وتعبير مدهش، وفهم لأصول الموسيقي، وروح تبعث المرح. أعود لسماعه وهو يقول في مونولوج شهير: ما تستعجبش.. ما تستغربش فيه ناس بتكسب ولا تتعبش وناس بتتعب ولا تكسبش الغريب أنه لم يتعب فنان مثله، وأنه كسب الكثير، ثم مات مفلسا لأنه أنفق كل أمواله علي الفن. وأصر -رغم كل الظروف- أن تبقي أنوار مسرحه مضاءة. ماذا كان سيقول »سمعة» لو رأي ما تفعله الاحتكارات والفساد اليوم بالناس، وبالدولة، وبالفن؟!