لم أملك إلا الموافقة رغم أنني لم أتخيل دخولي ذلك المكان الذي لفظ فيه شقيقي »مشير» أنفاسه الأخيرة إثر اغتياله في سيارته قبل ثلاثة أعوام! نعم، سأصحب صديقي الطبيب الأمريكي إلي مستشفي معهد ناصر في شبرا الخيمة، قبل أن اصطحبه هو وزوجته للغذاء في مطعم عائم لتوقيعه عقدًا مع هيئة الكتاب لنشر مؤلفه الأحدث »سحر الحياة» بالعربية في القاهرة. نعم، هو أمريكي يكتب القصة والرواية بالعربية. لكنه مصري المولد والنشأة والهوي. تخرج في طب قصر العيني عام 1981 لكنه لم يستطع المكوث طويلًا بوزارة الصحة، فكانت هجرته إلي أمريكا قبل 32 عامًا، أصبح خلالها واحدًا من أهم المتخصصين في مجال جديد »علاج الألم». تخصص فيه بجامعتي: »هارفارد»، و»جونز هوبكنز» المرموقتين، قبل عمله في الصرح الطبي الضخم الذي يحمل اسم الجامعة الأخيرة. فمستشفي »جونز هوبكنز» تحتل الخانة رقم 1 في قائمة أفضل مستشفيات أمريكا علي مدي 14 سنة. وبسرعة أصبح »شريف مليكة» طبيب المهام الصعبة المتصلة بعلاج الشخصيات المرموقة بمختلف أنحاء المعمورة. قبيل مجيئه إلي مصر، في تلك الزيارة الأدبية لمناقشة مجموعته القصصية الجديدة »سحر الحياة»، قبل شهر، وصلته رسالة من أحمد كمال، ملحقنا الطبي بواشنطن، تبلغه بمبادرة وزارتي: »الهجرة»، و»الصحة» لدعوة الطيور المهاجرة من الأطباء المرموقين لزيارة مصر، ونقل رؤاهم لكيفية تطوير سبل التشخيص وعلاج الحالات الحرجة من المصريين غير القادرين علي السفر للخارج، فلم يصدق، وتساءل: هل انتبهت مصر أخيرًا إلينا؟! وتبعت ذلك مكالمة هاتفية، كانت علي طرفها الآخر »الدكتورة رنا زيدان»، معاون وزير الصحة لتقول له، علي استحياء: »إن هذا العمل دون مقابل، فهل تقبل؟» ودون أدني تردد يؤكد لها موافقته، ويتساءل عن سبب تأخر وزارة الصحة في القيام بمثل هذه المبادرة، بل ويعرض عليها أن تسهم زوجته الأمريكية في علاج الأطفال المصريين في ظل هذه المبادرة. وعندما زار الدكتور مليكة القاهرة في مطالع سبتمبر الماضي حرص علي أن يلتقي بالدكتورة »رنا زيدان» لمعاينة مسرح الأحداث، وفاجأني برغبته في أن أحضر اللقاء، كنا في مكتب الروائية »سهير المصادفة»، رئيس إدارة النشر بهيئة الكتاب، لتوقيع عقد كتابه الجديد، ونظرت إليّ زوجتي متسائلة في صوت خفيض: وهل تمتلك القدرة علي دخول معهد ناصر مرة أخري؟ فكانت إجابتي: »لازم أروح». ووصلنا وشرحنا لموظف الأمن أننا علي موعد مع معاونة وزير الصحة، فأجاب بقرف: »هنا معهد ناصر!»، فأفهمناه أننا سنقابلها في مكتب مدير المعهد، الدكتور »حازم الفيل»، فسمح لنا بالعبور، فوجدنا أنفسنا داخل حديقة لفتنا فيها تمثالًا رائعًا للحكيم »أبوقراط» مرتديًا قناع طبيب يحتضن مريضًا متألمًا، ولم يقطع تأملنا سوي سؤال موظف أمن آخر: من أنتم؟! فأجبناه: »نحن ضيوف نبحث عن معاونة الوزير ومدير المعهد»، فأبلغهما باهتمام، وأشار إلي ممر يفضي إلي باحة قصدها مدير المستشفي وضيفته وعدد من كبار الأطباء في التخصصات المتصلة بعمل الدكتور مليكة لاستقباله، وفي قاعة رحبة، نظيفة، تابعت أسئلة الضيف وهو يتحري عن أساليب العمل المتبعة في هذا المكان، وكيف يتعاملون مع المريض، ومتابعة تطور حالته، وسبل إجراء الجراحات، ولفتني اعتراضه علي أن يتسبب الطبيب في إصابة المريض بأي عجز في جسده بدعوي تخليصه من ألم، مهما كانت حدته. وهكذا صافحت وجهًا آخر لمليكة غير وجه الأديب الذي ألفته، وعندئذ تأكدت حجم عبقرية هذا المصري وإنسانيته في التعامل مع النفس البشرية بالرحمة المفتقدة بيننا.