من منّا يمتلك الشجاعة؟ قبل أن ترفع سبابتك لتجيب علي السؤال الذي يطرحه طارق عطية - مدير ومؤسس البرنامج المصري لتطوير الإعلام - في مقدمته لكتاب (فرانك سيناترا عنده برد)، عليك أن تسأل أيضاً إذا كانت الجريدة أو المؤسسة التي تعمل بها تمتلك الشجاعة لتمنحك الوقت الكافي، والمساحة الكافية، للعمل علي قصة مثل هذه. وإن كنت تهز رأسك - الآن - إلي اليمين وإلي اليسار، فلن يمنعك ذلك من قراءتها، ربما تجدد إيمانك بموهبتك وتشحن طاقتك من جديد إلي الإبداع. تمتلئ هذه القصة بالتفاصيل والمقابلات والملاحظات وليدة اللحظة، التي تتطلب شيئين أساسيين في الكُتاب والمحررين المُحبين لهذا النوع من الصحافة الأدبية، هما الحب والصبر. أن تحب أفكارك التي تعمل عليها إلي الحد الذي يجعلك تجرب كل الفرص لكي تخرجها بالشكل الأفضل، وأن تصبر علي كل المعلومات التي تأتي علي مهلها، والتي قد لا تأتي أبداً. وهو ما كان يتحلي به الصحفي والكاتب الأمريكي جاي تاليز، والذي طلبته مجلة إسكواير الأمريكية كي ينتج لها ست قصص صحفية علي مدار عام كامل، فقد عكف علي العمل علي هذه القصة، بعد أن رفض فرانك سيناترا إجراء مقابلة معه، وذلك لأنه يؤمن أن »الإبداع في الصحافة يكمن فيما تفعل بما هو متوافر بين يديك». صحفي غيره، كان سيتراجع عن العمل علي موضوع يخص فرانك سيناترا، انتقاماً منه، أو ربما سيكتب عنه مقالاً يسيء له ويسبه فيه، لكن جاي تاليز وجد أن القصة تبدأ من هنا، وقال لرئيس تحرير المجلة: «ربما لم أحصل علي القصة التي كنا نتمناها - فرانك سيناترا الحقيقي. لكن ربما، بعدم حصولي عليها - وبسبب الرفض المستمر الذي قوبلت به ورؤيتي المستمرة لإمُّعاته وهم يحرسون خاصرتيه - سوف نقترب أكثر من حقيقة هذا الرجل». وبالفعل تتبع جاي تاليز حياة فرانك سيناترا من كل زاوية: الأماكن التي يتردد عليها، وأصدقائه المحيطين به، وفرقته الموسيقية، وأفراد عائلته، وأعدائه. تبدأ أحداث القصة - الواقعية تماماً - في البار الذي يتردد عليه فرانك سيناترا، وقد بدا علي وجهه شيء من القلق، إذ كان مصاباً بنزلة برد، المرض الذي اعتاده الناس ولا يعيرونه أي اهتمام، لكن بالنسبة له، يصير الأمر مغايراً تماماً، حيث يتحول فجأة إلي شخص حزين وكئيب وغاضب. يصف جاي تاليز حالته هذه قائلاً: «سيناترا بالبرد يشبه بيكاسو دون ألوان، فيراري دون وقود، بل وأسوأ. حيث إن نزلة البرد العادية تنتزع عن سيناترا جوهرته النفيسة، صوته، وتغوص كالطعنة في قلب ثقته بنفسه.. إن سيناترا المصاب بالبرد يمكن أن يرسل ذبذبات تربك صناعة الموسيقي والسينما والاستعراض وما وراءها من صناعات، تماماً كما يمكن لوعكة مفاجئة أصابت رئيس الولاياتالمتحدة أن تهز الاقتصاد القومي بأكمله». اقترابه من عالم سيناترا، جعله يكتشف أنه الزعيم، وأنه واحد من الرجال المحترمين الذين يتميزون بالجلال والتواضع في الوقت نفسه، وأنه إنسان غير متوقع بالمرة، متقلب المزاج، ومتعدد الأبعاد، يتصرف من واقع اللحظة وبدافع الغريزة، يتصرف فجأة وبشكل درامي. دلل جاي تاليز علي تحليله بالكثير من المواقف التي رصدها بنفسه، كان من بينها: المشادة التي وقعت بين فرانك سيناترا والسيناريست هارلان إليسون، لأن إليسون كشر في وجه سيناترا وهو يجيب علي سؤاله الذي جاء بدون مناسبة وبشكل مفاجئ «هل حذاؤك إيطالي؟«، ولأن سيناترا صاحب القرار في أي مكان يذهب إليه، غادر إليسون البار بأمر منه. أقدم فرانك سيناترا علي هذا الفعل بسبب نزلة البرد، التي جعلت جميع من يعمل معه يتأهب لأي تصرف له، وفي أحد أيام تسجيله للبرنامج الذي يقدمه ويغني فيه، وبسبب توتره من الفيلم الوثائقي المنتظر عرضه، والذي أشاع حوله أنه يتطرق إلي حياته الخاصة، تعامل سيناترا بعنف مع المخرج وأصدر أمراً بإعدام الشريط الذي تم تسجيله طوال هذا اليوم، قائلاً له وهو يشير برأسه إلي صورته وهو يغني علي شاشة العرض: «إن الذي لديك هنا هو رجل عنده برد!». اللافت للنظر في هذه القصة، ليست المواقف والتفاصيل الدقيقة التي سجلها جاي تاليز سواء في وصفه للملابس والوجوه والأماكن والأشخاص الموجودين ومزاجهم حتي، إنما أسلوبه في الحكي، وتحليليه المبني علي ما يراه، وليس علي رأيه، يقول مثلاً عن فرانك سيناترا: «كان لديه كل شيء، لم يكن يستطع النوم، كان يمنح الآخرين هداياه اللطيفة، لم يكن سعيداً، ولكنه لم يتنازل عما هو عليه حتي في مقابل السعادة.. إنه قطعة من ماضينا، كل ما في الأمر أننا كبرنا ولم يكبر هو.. نحن مكبّلون بحياتنا العائلية، وهو لا.. نحن محكومون بما تمليه علينا ضمائرنا، وهو لا.. إنه خطؤنا نحن وليس خطأه هو.. إنه يتحكم في قائمة الطعام بكل مطعم إيطالي في لوس أنجلوس، إذا أردت أن تأكل وجبة من شمال إيطاليا سيكون عليك الطيران إلي ميلانو.. فالناس يسيرون وراءه، يقلدونه، يحاربون كي يظلوا بجانبه، إنه يشبه المدرب في غرفة خلع الملابس، القائد في الثكنة العسكرية».. بجانب ذلك، طريقته في عرض المعلومات عن فرانك سيناترا، خصوصاً التي تخص نشأته ومشواره الفني، لم يذكرها في بداية الموضوع أو في نهايته، لم يعرضها بالشكل الممل الذي نقابله كثيراً، إنما في منتصف القصة، وبشكل تلقائي أخذنا إلي ذكرياته الأولي، بعد مكالمة سيناترا مع والديه، التي كانت مفتاحاً عظيماً للحكي. وبتلقائية أكثر، تحدث جاي تاليز عن عشيقات سيناترا وزوجته الأولي وأبنائه، وعن سيناترا قبل أن يصبح فناناً ذائع الصيت، إذ كان وحيداً يقضي ساعات طويلة محدقاً في الفراغ، بينما تخطط أمه دوللي لأن يصبح مهندس طيران، ولأنه عنيد مثلها، تركته يحقق رغبته في الغناء، وظلت تشجعه طيلة حياتها، وحين سألها جاي تاليز عن علاقتها به قالت دوللي: «لم نكن أماً وابنها، كنا أصحابا». الحقيقة أن فرانك سيناترا ليس نجم هذه القصة، إنما جاي تاليز الذي استطاع أن يجلب منظوراً جديداً له، فقد تحدث مع مائة شخص، من الذين لهم أدوار كبيرة أو بسيطة في حياة سيناترا، إضافة إلي أسلوبه المدهش في نقل الأحداث والمشاهد، وذكر الحوارات كما هي، واختياراته للبداية والنهاية، وسلاسته في الانتقال من معلومة لأخري، إذ نجح في أن يقدم عملاً صحفياً متكاملاً من خمسة عشر ألف كلمة، دون أن يجعل القارئ يشعر بالملل أو بإهدار وقته. تعد قصة «فرانك سيناترا عنده برد - 1966» الذي ترجمها لنا إيهاب عبد الحميد، والصادرة عن البرنامج المصري لتطوير الإعلام، من أشهر أعمال جاي تاليز الصحفية، وأفضل قصة نشرتها مجلة إسكواير في تاريخها، ويبدو أنها ستظل أفضل القصص التي سنقرؤها علي الإطلاق.