أعرفُ أن لا مجال هنا لاستعادة ذكريات شخصية، لكن بما إنني أنثي مورس عليها أشكال من القهر والعنصرية، وفرض عليها الكثير من العادات والقوانين التي لا تمت إلي الإنسانية بشيء، فلا بأس إذن من كسر القاعدة. بإمكاني القول إنني أحسب علي حريم القرن الحادي والعشرين طالما لا يزال يتم التحكم بأجسادنا. بإمكاني القول أيضاً أنني منذ الطفولة، وأنا أدرك أنني أحمل عبئاً إضافياً وأننياً سأخوض حروباً كثيرة. أدركتُ ذلك في حصص الجغرافيا، حين قررت المُعلمة استبدال خارطة العالم بأجسادنا، فكانت تحوّل حديثها -دائماً- عن الأوطان إلي مواطن الشهوة فينا، وعن الحدود التي فرضها علينا المستعمر إلي الحدود التي يجب ألا نتجاوزها. لازلت أذكر صديقتي التي أقبلت يوماً بعد موعد حصة الجغرافيا. كانت ترتدي اليونيفورم الخاص بغير المحجبات؛ جوب لا تكشف عن الركبة، وقميص نصف كُم. وكان باب الفصل وقتها مفتوحاً. وقفت البنت دون أن تنطق بكلمة، وحين لمحتها المُعلمة نظرت إليها بحدة، لم تسألها عن سبب تأخرها، إنما عن مجيئها بهذه الخصلات التي أسدلتها علي كتفيها. ابتسمت البنت، وسألتها بمرح: "هل أحلق رأسي يا أبلة؟!"، فضج الفصل بالضحك، ما جعل المُعلمة تخرج وهي مشتعلة من الغضب. وبعد دقائق، أتت وفي يديها قماشة طويلة، وأمسكت رأس البنت، وغلفته، كما لو أنها تغلف علبة حلوي. وهددتها بالعقاب إذا حضرت الحصة مرة أخري بلا حجاب، وكان لنا جميعاً نفس التهديد. لم تؤثر هذه الواقعة علي حياة البنت وحدها، بل وعلي حياتي أنا أيضاً، إذ استوعبتُ أن كل ما سأرتديه في أي مكان سوف يخضع لأحكام القوة المسيطرة عليه، حتي لو كان هذا المكان بلدا آخر، ما جعلني أضع نفسي محل المرأة التي أجبرتها الشرطة الفرنسية -في أحد الأيام العشرة الأخيرة من أغسطس- علي خلع البوركيني، وذلك بعد صدور حكم قضائي بحظر ارتدائه في شواطئ أربع مدن، ربما لم أكن سأخضع لطلب الشرطة بخلع ملابسي وكنتُ سأختار أن انجر إلي السجن طالما تمسكت بهيئتي هذه من البداية، لكنني في الوقت نفسه لا ألومُها علي تصرفها، فحسب وكالات الأنباء التي تحدثت معها، قالت إن من حولها ظلوا يصرخون ويصفقون وطلبوا منها العودة إلي وطنها. تميل الاحتمالات إلي أن هذه المرأة عربية، وأنها من البلاد التي تشهد الآن نزاعات وحروباً، لذلك لم يقف أحد في صفها، وحين نجد أن العالم انشغل بالبوركيني الذي ارتدته، ولم ينشغل بالأسباب التي دفعتها إلي الاحتماء بالرجل الأبيض، نفهم أن الأمر ليس كما بدا لنا، وهذا ما يكشفه تناول إعلام أوروبا للواقعة، فقامت إحدي الوكالات الألمانية -علي سبيل المثال- باستغلال القضية لخدمة إسرائيل ودعم تأثيرها في المنطقة العربية، إذ أعدت تقريراً تعكس فيه استياء الإسرائيليين من إجبار المرأة علي خلع البوركيني لأنه يتنافي مع الحريات، وأن هذه من المرات النادرة التي يتفق فيها اليهود والمسلمون علي رأي! لا يتعلق الأمر عندهم بحرية المرأة، بل بالجغرافيا، وإلا لماذا لم ينتفض العالم بسبب الجرائم التي تتعرض لها السوريات، ولماذا لم يصفق لهن -علي الأقل- كلما انتصرن في إحدي المعارك؟ فقبل واقعة البوركيني هذه، كانت مدينة منبج السورية تشهد تحريراً جللاً، إذ استطاع مقاتلون عرب وأكراد إنقاذ أهلها من قبضة داعش، وكانت مشاهد المقاتلات الكرديات بمثابة تأكيد علي أن المرأة لا تزال قادرة علي استرداد كرامتها وتحرير جسدها وأرضها معاً، حيث قامت النساء اللاتي فرضت عليهن داعش ارتداء النقاب بخلعه وحرقه في الطرقات، بينما أشعلن الكثيرات منهن السجائر لينفثن دخان العبودية. لم تبالغ إذن نوال السعداوي عندما قالت "لا كرامة لوطن تُهان فيه النساء"، وكانت تقصد هنا كل الأوطان، وكانت تقصد كل النساء وليس العربيات فقط، رغم أنها انحازت لهن في كثير من كتاباتها، لتُصحح الصورة السلبية التي انطبعت في أذهان الغرب عنهن، وقالت في كتابها (قضايا المرأة والفكر والسياسة): "في بلاد أوروبا المتعددة وقفت أمام السبورة في الجامعات والمعاهد، وقلت لهم: اسمعوا أيها الناس في أوروبا. إنكم لا ترون فوق شاشتكم إلا صورتين اثنتين للمرأة العربية، إما المحجبة أو نصف العارية ممن تسموهن راقصات البطن، أو الرقص الشرقي في ملاهي السياح الأجانب. اسمعوا أيها الناس في أوروبا: إن المرأة العربية لا تتعري، ولا تخفي وجهها.. أنا أكشف عن وجهي بكل فخر واعتزاز بنفسي وهويتي، والمرأة العربية إنسانة، وهي عقل، وليست مجرد جسد يُعري أو يغطي". بالعودة إلي التاريخ، نجد أن أوروبا ساهمت في صنع هذه الصورة، حين راحت تروج لطريق رأس الرجاء الصالح الذي تم اكتشافه أواخر القرن الخامس عشر، وما تابع ذلك من سوء الأحوال الاقتصادية للمنطقة، والتي أثرت بالتبعية علي وضع المرأة، إذ كان يتم تصنيفها والتعامل معها وفق ما ترتديه. وفي كتاب (أزياء المرأة في العصر العثماني) للدكتورة آمال المصري نعرف أن ما نتعرض له نحنُ النساء له جذور قديمة؛ فقد نتج عن تحويل طريق التجارة إلي رأس الرجاء الصالح فقدان الكثير من المدن العربية لمصدر ثروتها ورخائها، واتسعت حينها قاعدة الهرم الاجتماعي في مصر، وكانت ملابس النساء تعكس ذلك، فلم تكن يمتلكن إلا ما يستر أجسادهن، وكان في الغالب ثوباً واحداً، لونه أزرق، مصنوع من الأقمشة المحلية رديئة الصنع ورخيصة الثمن، وكن يغطين رؤوسهن بطرحة أو ملاءة، وكلما تحسن وضع إحداهن، زادت ملابسها قطعة، فترتدي السروال أو البرقع مثلاً. وقد دون الرحالة الذين زاروا مصر بعد الحكم العثماني في مذكراتهم أن الارستقراطيات ومتوسطات الحال لم تكن تخرجن بدون البرقع، أما الفقيرات فلم يرتدونه. وذكرت آمال المصري أن تغطية وجه المرأة لقي اهتماماً شديداً، ولم يكن مرجع ذلك دينياً بقدر ما كان تقليداً اجتماعياً، فقد كانت نساء الطبقة العليا يتمسكن بالبرقع والحجاب ليختلفن عن الفقيرات. وفي فترة الحملة الفرنسية علي مصر، تأثرت الكثيراث من النساء بملابس الفرنسيات اللاتي جئن إلي القاهرة ولم يزد عددهن علي 330 ، فكن يطرحن الحجاب ويتشبهن بهن، خصوصاً النساء المسيحيات ونساء الجاليات الأجنبية مثل الشوام والأرمن، وأيضاً اللاتي كانت لهن صلة بالفرنسيين. لا يعني ذلك أن أوروبا تتحمل المسئولية عما تعانيه المرأة المصرية بصفة خاصة، والمرأة العربية بصفة عامة، لأن النساء بمختلف دياناتهن ومجتمعاتهن وأزمنتهن تتحكم فيهن الذكورية التي حصرتها في خانة الجسد، إلي الحد الذي جعل الكثيراث يؤمنن بذلك، فتجد نساء يهاجمن نساء لمنادتهن بحقهن في أشياء لا تُطلب، حقهن مثلاً في أن يتم التعامل معهن علي اعتبار واحد فقط أنها إنسان له عقل ومشاعر وغرائز أيضاً، فلا يكفي أن تكون المرأة مرأة كي تؤمن بحريتها، وهنا أريد العودة مرة ثانية إلي الدكتورة نوال السعداوي، بما أنها من أشد المدافعين عن المرأة، ففي كتابها (الأنثي هي الأصل) وضعت يديها علي الأسباب التي أوصلتنا إلي هذا التدني، تقول: "كنت أندهش كلما أوغلت في قراءة تاريخ البشرية القديم، قبل ظهور الأديان، وقبل نشوء الأسرة الأبوية، لتلك القيمة الإنسانية الكبيرة التي كانت تتمتع بها أنثي الإنسان -المرأة كما نسميها الآن- والتي كانت تتزايد كلما أخذتني القراءة بعيداً في أقدم عصور التاريخ، في الفترات الأولي من حياة الإنسان البدائية. في تلك العهود كان الإنسان طبيعياً، يعيش حياته كما هي، ويتصرف وفق رغباته ومشاعره وتفكيره، كان الإنسان -ذكراً أو أنثي- وحدة واحدة. لم يكن هناك انفصال بين جسم الإنسان وعقله أو نفسه. لم تكن الأديان قد ظهرت بعد وفصلت بين الحلال والحرام. ولم يكن علم الفلسفة قد ظهر بعد وظهر معه الفلاسفة الذين فصلوا بين الجسم والعقل. ولم يكن علم النفس أو السيكولوجيا قد ظهر بعد أو تلك العلوم الأخري كالبيولوجيا والفسيولوجيا وأحدثت هذه المسافات بين الجسم والنفس". بجانب أن الإنسان استخدم الدين والعلم بطريقة باعدت بينه وبين نفسه، وبينه وبين نصفه الثاني، لقد اعتقد في أفكار كَبَّلَت من طبيعته وشوهتها أكثر، وبالبحث في العادات والمعتقدات نجد أنها حطت من شأن المرأة، وأننا لانزال نستخدمها رغم كل هذه الأزمنة ورغم كل هذا العلم ورغم كل هذا التقدم، ولقد قام الراحل محمود سلام زناتي أستاذ تاريخ وفلسفة القانون بجمع كثير من (طرائف العادات وغرائب المعتقدات) وهو اسم كتابه الصادر عام 1996 دون تنسيق فيما بينها ودون تعليق من جانبه، كي نكتشف بأنفسنا أن المرأة منذ قديم الأزل يتم تعريتها وتغطيتها وفقاً لما يريده الرجل. من بين هذه العادات، تعري المرأة في بعض الأماكن المقدسة، فقد روي دبودور الصقلي المؤرخ الإغريقي الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد أن المرأة في مصر كانت تتعري حين يتم تنصيب العجل أبيس إلهاً ، إذ قال: "عندما ينفق الثور المقدس (عجل أبيس) ويودع قبره في حفل رائع، يبحث الكهنة عن عجل له سمات سلفه الراحل. وعندما يقعون علي بغيتهم، يُرفع عن الشعب الحداد، ويقود الكهنة العجل إلي نيو بوليس (مدينة النيل)، حيث يعلفونه أربعين يوماً، ثم يودعونه غرفة مذهبة من سفينة حكومية ويزفونه إلي معبد "هيفايستوس" في منف، وفي هذه الأيام الأربعين يُفرض علي النساء الوقوف في مواجهته ورفع أثوابهن وكشف عوراتهن، وبعد ذلك يحظر عليهن التوجه إليه". اختلفت القبائل والشعوب في شأن ما يجوز أن تكشفه المرأة من جسدها، وما يجب أن يظل مختفياً، بل أن اختلافهما في هذا الشأن كان من النقيض إلي النقيض، إذ جري العرف لدي بعض الأقوام بعدم ستر المرأة لأي جزء من جسدها، وتصير عارية تماماً، ولا يقتصر العري فيهن علي فئة دون الآخري، فهو يشمل الفتيات والعجائز، كما يشمل المتزوجات وغير المتزوجات، الفقيرات وميسورات الحال، مثلما كان لدي بعض الاستراليين الأصليين، وفي حوض الأمازون أيضاً حيث كان يغطي الرجال عوراتهم بينما تتجول النساء كما ولدتهن أمهاتهن، وفي أقوام أخري كانت تظل المرأة في حالة عري كامل إلي أن تتزوج فتستر عورتها فقط، وذكر الرحالة محمد بن عمر التونسي في كتابه (رحلة إلي ودّاي) أن هناك قبائل من الفرتيت لا تخفي فيها النساء عوراتهن إلا بأوراق الشجر. بينما بلغ استتار المرأة لدي بعض الأقوام إلي حد أن وجودها يصبح كعدمه، وكان يُفرض عليها ذلك، وإن خالفت الأوامر تُعاقب كالمجرمين والقتلة. ففي الفترة الواقعة بين 1903 و1914 عثر المنقبون الألمان في خرائب مدينة أشور القديمة علي لوحات طينية عليها كتابة مسمارية، وتبين فيما بعد أنها نصوص قانونية صُدرت حوالي سنة 1200 ق.م، تفيد بأن أشور ألزمت الحرائر بتغطية رءوسهن، أما الإماء والعواهر فألزمتهن بكشف رءوسهن وإلا تعرضن لجزاءات قاسية، وجاء في أحد النصوص أن "المومس يجب ألا تحجب نفسها، يجب أن تكون رأسها مكشوفة. ومن رأي مومساً محجبة من واجبه أن يقبض عليها، ويحضرها إلي محكمة القصر، وسوف تُجلد بعصيّ خمسين جلدة ويصبون القار (أثقل منتجات النفط و أعلاها) علي رأسها. أما إذا رأي رجل مومساً محجبة وتركها تذهب دون إحضارها إلي محكمة القصر، فسوف يُجلد بدلاً منها خمسين جلدة وسوف يخرمون أذنيه ويمررون بينهما خيطاً يعقدونه علي ظهره، وسوف يعمل من أجل الملك شهراً كاملاً". سرَي أيضاً التفرقة بين الحرة والجارية بالزي، ففي بابل كان يتم إلزام الأولي بارتداء الحجاب ووضع النقاب، وإلزام الثانية بالتعري، وفي الألف الثالثة قبل الميلاد كان من المحظور علي الزوجة الحرة الخروج من بيتها وهي مكشوفة الرأس وكان وقد بناتها يغطين رءوسهن كي يتميزن عن بنات البغايا والإماء. أما إذا أراد الرجل أن يتزوج من إحدي الإماء، ألزمها بتغطية رأسها ووجها في حضرة خمسة شهود أو أكثر، مما يشير إلي أن وضع النقاب كان في الأصل إجراء يقصد به التمييز بين النساء تبعاً لطبقتهن الاجتماعية. وقد انتشرت هذه العادة في العصر العباسي، و قد قدمت الباحثة العراقية واجدة الأطرقجي في كتابها (المرأة في أدب العصر العباسي) تفسيراً لذلك، إذ قالت "يبدو أن الحضارة والمدنية والاختلاط بالأجانب هي التي أدت إلي التشديد في حجب الحرائر عن الرجال"، ما يعني أن المسلمين الذين كانوا يفرضون النقاب علي الحرائر ويعفون منه الجواري والإماء لم يكونوا في تصرفهم هذا يتبعون تعاليم الإسلام، وإنما كانوا يطبقون دون أن يدروا القانون الأشوري. ويبدو أننا لا نزال نطبق القانون الأشوري في بلادنا العربية، حيث يتم الحُكم علي المرأة من خلال ملابسها، فنجد الناس ينظرون إلي المحجبة علي أنها تتحلي بالخُلق والفضيلة في حين أنها قد تكن عكس ذلك، وينظرون إلي غير المحجبة علي أنها مُباحة ولا يقف أحد في صفها إذا تعرضت إلي أي انتهاك، في الوقت الذي تنقلب فيه هذه النظرة في دوائر ضيقة تُصنف كمجتمعات راقية، تعتبر المحجبة رجعية ومتخلفة أما غير المحجبة متحضرة وحرة، وفي كلتا النظرتين يتم التعامل مع المرأة علي أنها محض جسد، لذا لا عجب إذا رأينا المجتمعات الأوروبية والغربية تحتقر المرأة العربية، وتفرض عليها قوانينها، طالما أنها لا تملك حرية اختيار ملابسها وحق التصرف بجسدها، وطالما أن الذكورية لازالت تحكم.