صورة ضاحكة وسطر كلام 1 فوجئت به أمامي مادا ذراعيه وابتسامة كبيرة علي وجهه.. بادرني قائلا: أين أنت يا رجل.. اختفيت مرة واحدة.. لم يعد يراك أحد منذ فترة طويلة..؟.. انتعشت روحي.. وسرت داخلي فرحة حقيقية افتقدتها من زمن بعيد.. أعرب لي عن سعادته برؤيتي وأنه يقرأ ما أكتبه في الصحف والدوريات ويسعد بذلك، تجاذبنا أطراف الحديث وكان ذو شجون عن تلك الأيام التي كانت فيها مقابلاتنا شبه المقدسة خاصة سهرتي الثلاثاء والخميس، التي كانت تمتد حتي الفجر.. وتطرق إلي الأصدقاء والرفاق، منهم من رحل عن عالمنا ومنهم من اعتكف أو احتجب.. ولم يعد باقيا علي الساحة سوي فتية صغار، لم يكن لهم عهد بنا.. وبنات الشيشة اللاتي انتشرن كالنار في الهشيم، قلت "هكذا حال الدنيا يا صديقي".. صاح متحديا في حماس طاغ "لكن كثير منا لم يمت بعد.. ومازال قادرا علي العطاء".. قلت مازحا "وأين ستجد هذا الكثير الذي مازال قادرا علي العطاء..؟.. كل واحد منا في واد منعزل عن الآخرين".. قال بحماس متزايد "ما رأيك أنا قادر علي لم الشمل مرة أخري واستدعائهم للقاء كما كنا نفعل؟".. قلت وأن أضع كفي علي كتفه موافقا ومشاركا في الحماس "وتلك موافقتي التي أعلنها مقدما وعليك الباقي".. قال "حسنا موعدنا مساء الخميس المقبل في نفس المكان الذي كنا نلتقي فيه دائما".. ثم استطرد ضاحكا وهو يشد علي يدي "لا تقل وداعا، بل قل إلي لقاء". 2 الغريب في الأمر أن صديقي هذا والذي أعرفه جيدا وكانت تجمع بيننا صداقة وطيدة.. وربما كان الوحيد من شلة الأمس الذي مازالت كثير من الصحف اليومية والمجلات الثقافية تتداول اسمه، إلا أن اسمه الأول غاب عن ذهني وحاولت جاهدا طوال فترة وقوفنا وحديثنا معا أن أتذكره إلا أني لم أستطع، أيضا ولوقت طويل أثناء عودتي إلي البيت.. وفي البيت وعلي مدي ليلة كاملة، لكني كنت علي يقين من أنه صديقي القديم الذي أعرفه جيدا.. وكان أكثرنا انطلاقا وتحررا ويتميز بجرأة يحسد عليها وقدرة علي التحايل، لا يملكها أحدا غيره.. وأذكر أنه أراد يوما أن يحصل علي مزايا من مسئول كبير فكتب يمتدحه في إحدي الصحف.. ويثني عليه وعلي المصلحة التي يرأسها بطريقة فجة.. وكلمات تفضح قائلها وتوجه إليه سهام الاتهام بالتملق، لكن ما بين السطور والمستتر، كان عكس ما هو واضح ومعلن عنه، فسألته "وهل تظن أن صاحبك هذا لن يفطن إلي الهجاء الذي توجهه إليه فيما كتبت؟" فأجابني لاهيا وهو يضحك بشدة "إنه حمار".. وفي اليوم التالي كان هذا المسئول يستدعيه علي وجه السرعة ويبدي إعجابه بما قاله صديقي عنه وعن مؤسسته ويسأله إن كانت له حاجة خاصة، فيخبره أنه بصدد وضع تصور فكري لإبراز شكل هذه المؤسسة ودروها الرائد علي مدي زمن طويل، خاصة منذ تولاها هذا المسئول، فيصدر الأمر في الحال بالاهتمام بهذا المشروع.. وتوفير كافة الاحتياجات المالية لتنفيذه وسألته بعد ذلك "هل حقا لديك هذا المشروع الذي تحدثت عنه؟".. قال بلا مبالاة "لم يكن هناك مشروع ولا يحزنون، كل ما هنالك أن الفكرة طرأت علي بالي وأنا أجلس معه في مكتبه".. وحصل صديقي علي النقود من هذا المسئول وتبخرت فكرة المشروع وطواها النسيان.. ومسئول آخر كان يجلس مع نخبة من أصدقائه في أحد الأماكن المتميزة، يتناولون ما لذ وطاب من الطعام والشراب .. وفجأة ظهر صديقي أمام هذا المسئول وتقدم نحوه باشا ضاحكا، فاردا ذراعيه، كما لو كانا صديقين حميمين يلتقيان.. ولم يكن أمام المسئول مفرا من أن يستقبله بحرارة تتناسب مع الموقف، وراح صديقي يحتضنه ويمطره بالقبلات كعادته، ثم جلس إلي جواره وبين أصدقائه وطلب طعاما وشرابا مثلهم، قام بالتهامه وطلب غيره.. وتكرر الطلب وهو يأكل كل ما تشتهيه نفسه ويطيب لها إلي حد التخمة، نهض واقفا، ثم انصرف وقد ظن البعض أنه ذهب إلي دورة المياه أو شيء من هذا القبيل، لكنه كان قد رحل ولن يعود.. وعند سداد قائمة الحساب فوجئ المسئول بأن حساب صديقي وحده يفوق قيمة ما تناوله هو وضيوفه مجتمعين، فكاد ينفجر من الغيظ.. وعندما سألته كيف تأتي له أن يفعل ذلك، أشاح بيده وقال بلا مبالاة وهو ينفخ دخان سيجارته في الهواء "وهل سيدفع شيئا من جيب أبوه". 3 كان هذا نموذجا مما يفعله صديقي مع كبار المسئولين.. ويجلس بيننا ليحكي نوادره وحكاياته مما لا يجرؤ آخر غيره علي القيام به، نستمع إليه مأخوذين فيعقب قائلا "هل هو حلال لهم وحرام علينا، إنهم يهبرون الكثير دون حسيب أو رقيب ولا أحد يقول لهم لماذا تفعلون ذلك". 4 اجترار ذكريات ما كان يفعله صديقي أيقظ في داخلي ذكري تلك الأيام المولية وأجج الرغبة في استعادتها والعودة إليها، كان شيئا يشبه الحلم يدغدغ أحاسيسي ومشاعري وجعلني أتساءل في نشوة "هل يكون صديقي هذا، الذي التقيت به علي غير موعد هو البوابة التي سأعبر من خلالها أعود إلي أيام لها مذاق خاص". 5 قبل الموعد المحدد بوقت طويل كنت أجلس في المكان الذي اعتدنا أن نجلس فيه.. قلت لنفسي "لا بأس أني جئت مبكرا قبل الموعد، سأنتظر حتي يأتي الأصدقاء، فأنا في شوق إليهم، بعضهم لم أره منذ وقت طويل".. تناولت مشروبا.. وتلاه آخر وبين الحين والحين، أنظر إلي ساعة يدي لاستطلاع الوقت وأفكر في هؤلاء الرفاق الذين سيهلون بعد قليل، فرادا وجماعات كعادتهم وكنت واثقا من أن صديقي لديه القدرة علي إقناع كل منهم علي حدة بضرورة الحضور إلي هذا اللقاء.. وأتخيله وهو يمسك بسماعة التليفون ويحادث كل منهم وهو يذكر له أن فلانا سوف يأتي وفلانا سوف يأتي.. وربما يذكر له أسماء من هاجروا وانقطعت أخبارهم.. أو الموتي الذين لن يعودوا إلي الحياة، اعتمادا علي ضعف الذاكرة، حتما هم سوف يأتون، وحل الموعد ثم تجاوزه، لكن أحدا لم يأتي، ساورني الشك برهة، لكني سرعان ما أبعدته عن نفسي ورحت أطمئنها بأن هناك ظروف قهرية قد تكون سببا في التأخير، ربما يكون زحام الشوارع وحركة المركبات البطيئة أو غير ذلك من الأعذار.. وطلبت من النادل أن يحضر لي النارجيلة التي توقفت عن تدخينها منذ وقت طويل، سعلت بشدة عندما شددت النفس الأول، لكني أعتدت عليها بعد ذلك، تطلعت حولي، رأيت وجوها لا حصر لها، لم أرها من قبل، تجلس علي الموائد الأخري، شباب صغير السن يأكلون السندوتشات.. ويجرعون علب المياه الغازية ويدخنون السجائر بشراهة.. أيضا فتيات يدخن النرجيلة.. وينفسون دخانها في الهواء بتلذذ.. والبعض يتطلع إليّ في ركني الذي أجلس فيه وحيدا، ثم يتهامسون مع الآخرين، ربما كانوا يعرفونني وأنا لا أعرف، سرقني الوقت دون أن أدري، كان الليل قد انتصف.. ولم يأت أحد، حتي صديقي الذي لا أظن أنه انقطع عن المجئ يوما، فعدت إلي بيتي محملا بخيبة الأمل والغيظ يتملكني وأنا أقول لنفسي "لابد أنها واحدة من مقالب صديقي التي يفعلها بالآخرين".. لكني توعدته بأني لن أترك مثل هذا الأمر يفوت بسهولة.. وسأعود مرة أخري وأنا الذي سوف أجمع الأصدقاء.. وألقنه درسا لن ينساه طوال حياته، فأنا أعرف الكثير عنه ولدي الكثير من أسراره التي لا يعرفها أحدا غيري.. وسأعريه أمامهم وربما أمام الكثيرين من المسئولين الذي وقعوا في براثنه. 6 في صباح اليوم التالي وبينما كنت أطالع صحف يوم الجمعة، صدمت عيني صورته الضاحكة وتحتها سطر كلام.. وتأكد لي أني لن أراه مرة أخري. عطر الرجل 1 عبر الجسر.. ومر من أمام بيتنا.. وواصل طريقه إلي الميدان.. مخلفا وراءه أريج عطره الرجولي النفاذ يعبق المكان.. وكأن لعطره رائحة لم أعهدها في عطر آخر.. رغم أني أزعم لنفسي إنني ذو خبرة ومعرفة بأنواع العطور جميعها وقد ظلت تلك الرائحة علي الطريق من الجسر حتي مدخل الميدان.. وكأنها عالقة بهواء ساكن يأبي أن يتحرك... 2 في الساعة المبكرة من صباح اليوم التالي.. حرصت علي أن أكون عند مدخل البيت.. حتي أري جيدا ذلك الرجل صاحب العطر.. وإن كنت في شك أنه سوف يأتي مرة أخري.. لكن شكوكي تبددت عندما لمحته قادما من بعيد.. ثم وهو يعبر الجسر.. وأريج عطره يسبقه.. ويحيط به.. ويتخلف ورائه.. ورحت من مكاني أتأمله بوضوح.. ليس شابا صغيرا.. لكنه أيضا ليس عجوزا أو متقدما في السن كان يبدو ناضجا.. له وجه مليح.. مريح التقاطيع والقسمات يزينه شارب أنيق فوق شفتيه.. وشعره أسود مصفف بعناية وتمتد أناقته إلي ثيابه بشكل متناسق الحلة والقميص