يحتاج المتعاملون مع معامل التحاليل إلي 24 ساعة علي الأقل للحصول علي نتيجة تحاليل خاصة بالكشف عن السرطان والمخدرات في الدم، هذا فضلا عن أن معامل التحاليل تستخدم لإجرائها مواد يتم استيرادها من الخارج.. ياتي ذلك في الوقت الذي تمكن فيه د.أيمن كامل، الاستاذ بكلية العلوم جامعة عين شمس، من استخدام تكنولوجيا المستشعرات الكيميائية لإجراء هذه التحاليل في 30 ثانية، ومن ثم فإن تطبيقها يصب في صالح معامل التحاليل بزيادة عدد العينات التي تستطيع تحليلها، واستخدام خامات أرخص بديلا عن المستوردة..ورغم ان النتائج التي توصل لها د.أيمن، كانت أحد أسباب حصوله علي جائزة الدولة التشجيعية هذا العام، إلا أنها لا تزال تبحث عن طريق للتنفيذ. إذا أردت أن تعرف كيف توصل د.أيمن لهذه الاكتشافات، يصر علي أن يعود بك إلي 44 عاما مضت، عندما سافر العالم المصري د.سعد السيد محمد حسن، إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد 3 سنوات من حصوله علي درجة الدكتوراه في الكيمياء من جامعة عين شمس. وخلال 10 سنوات قضاها د.حسن هناك، تعرف علي الكثير من المدارس البحثية، قبل أن يعود إلي مصر عام 1981، محملا بالكثير من التجارب التي يريد أن ينقلها إلي زملائه وطلابه. لم يرهق د.حسن نفسه في السعي نحو تطبيق التجارب التي يعلم أن ضعف التمويل سيحول دون تنفيذها، لكنه رأي أن اتجاه "المستشعرات الكيميائية" قد يكون هو الأنسب للإمكانيات المصرية، فأسس مدرسة بحثية، كان د.أيمن حلمي كامل، الحائز علي جائزة الدولة التشجيعية هذا العام، أحد تلاميذها. وحصل د.ايمن علي الجائزة عن مجموعة من الأبحاث في مجال المستشعرات الكيميائية واستخداماتها في الكشف عن المخدرات، وعن سرطان المثانة والعظام، وذلك من خلال اختبار لا تزيد مدته عن 30 ثانية، يجري علي عينة من الدم. ما هي المستشعرات؟ كانت عناوين الأبحاث محفزة علي السؤال عن تفاصيلها، ولكن د.ايمن، حرص علي الحديث عن ماهية المستشعرات الكيميائية قبل أن يخوض في التفاصيل..ومثل الأب الذي ينتشي فرحا، وهو يتحدث عن نجله، كانت السعادة تبدو واضحة علي وجه د.أيمن، وهو يتحدث عن هذا المجال، الذي منحه جائزة الدولة التشجيعية، وقبلها أعطاه الفرصه للنشر العلمي في أكبر الدوريات العلمية المتخصصة. يقول محاولا تقريب هذا المفهوم: " المستشعرات مادة نستخدمها لتقدير تركيزات بعض العناصر في وسط بيولوجي (مثل نسبة اليورك أسيك في الدم) أو بيئي ( مثل نسبة بعض العناصر الثقيلة في المياه). وقبل أن يخوض د.أيمن في مزيد التفاصيل، يقرأ إيماءات الوجه، ليعرف ان كان بإمكانه أن يستمر أو يتوقف لمزيد من التوضيح. يشعر أنه لا توجد مشكلة، فيواصل الحديث قائلا: " وتوجد عدة أنواع للمستشعرات، فهناك ما يعطيك إشارة لونية عند التعرف علي العنصر المراد الكشف عنها، ويعرف ب (المستشعر الضوئي)، وهناك نوع كهربي، يعتمد علي استشعار العنصر بقياس فرق الجهد، وهناك مستشعر عن بعد، يستخدم في بعض البيئات مثل مزارع الأسماك والميادين العامة، ويقيس وجود مواد معينة ويرسل بالنتائج مباشرة إلي غرفة تحكم". آلية العمل الحديث عن أنواع المستشعرات يثير علي الفور سؤالا عن آلية عملها، وقبل أن يشرع د. أيمن في التوضيح، يلتقط ورقة وقلم من مكتبه، فيما يبدو وكأننا سننتقل من القشور إلي الخوض في شرح التفاصيل. يقول: " سأعيدك إلي تعريف المستشعر وهومادة للتعرف علي العنصر المراد الكشف عنه، وهذه المادة إما ان تكون بوليمرات يتم تجهيزها أو مركب كيميائي يتم تحضيره بالجمع بين أكثر من مركب، أو مركب معروف ويتم توظيفه لهذه الغرض". إلي هنا لم يستخدم د.أيمن الورقة التي التقطها من مكتبه، ولكن سؤالي حول كيفية توظيف هذه المادة، يدفعه إلي استخدامها لمحاولة تقريب الشكل، الذي عمل عليه في أبحاثه، وهو المستشعرات التي تعتمد علي قياس فرق الجهد..ويقول بينما كانت يده تخط رسما توضيحيا علي الورق: " مادة المستشعرات يتم تحميلها علي دعامات بلاستيكية أو مصنوعة من الكربون تسمي ب ( الإلكترود)، ثم يتم بعد ذلك توصيل الدعامات علي جهاز مقياس فرق الجهد، الذي يتكون من قطبين، أحدهما المستشعر والآخر قطب قياس، وفي حال تعرف المادة علي العنصر المراد الكشف عنه، ينشأ فرق في الجهد علي سطح الالكترود". سر الصنعة هذه الآلية التي استغرق د.كامل بعض الوقت حتي يستطع تبسيطها، أثارت تساؤلا قبل الانتقال معه إلي كيفية تطبيقها في أبحاثه، حول مادة المستشعرات، التي يبدو مما سبق أنها الشيء الأهم في التقنية. بدا من الابتسامة العريضة التي ارتسمت علي وجه د.أيمن سعادته بهذا السؤال، الذي قال قبل يجيب عليه: " هذا هو سر الصنعة"..وشرع يوضح ما يعنيه ب "سر الصنعة" مضيفا: " كفاءة الباحث تكمن في اختيار المادة التي ستتعرف علي العنصر المراد تقديره، وكذلك في تصميم شكل الإلكترود، بحيث يتناسب مع نوعية التطبيق الذي سيستخدم من أجله، ففي بعضها يكون الشكل الاسطواني علي سبيل المثال هو الأنسب، وفي البعض الآخر يكون الشكل الدائري". اطمأن د.أيمن إلي وصول فكرة المستشعرات الكيميائية وطريقة عملها، حتي تكون هناك أرضية مشتركة، تسمح له بالحديث عن أبحاثه التي منحته جائزة الدولة التشجيعية..وقبل أن يشرع في الحديث، وانطلاقا من الآية القرآنية (وَلَاتَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)، حرص علي التذكير مجددا، أنه ابن مدرسة د.سعد السيد محمد حسن، والتي أنتج رائدها عشرات الأبحاث الفريدة في مجال المستشعرات الكيميائية. وقال ذاكرا بعضها:" هو أول من ابتكر مستشعر كيميائي يقيس عنصري البوتاسيوم واللاكتيات في الدم، واستخدم خلال فترة التسعينات في عملية جراحية أجريت بأمريكا علي قلب خنزير، كما انه صاحب مستشعر استخدمته وزارة الدفاع الأمريكية في الثمانينات لتقدير الهيروين في دم المجندين". وينطلق د.أيمن من ذلك إلي القول: " هذه الأبحاث وغيرها تعلمنا منها، وبدونها ما تمكنت من انتاج المستشعرات التي منحتني الجائزة". 30 ثانية فقط أحد هذه المستشعرات، أسست لطريقة أسهل وأسرع، لاكتشاف الإصابة بسرطاني المثانة والعظام، من خلال تحليل للدم تظهر نتائجه خلال 30 ثانية. ويجري في معامل التحاليل اختبار يعرف باسم "Bladder Tumor Antigen "، للكشف عن الإصابة بسرطان البروستاتا، وهو فحص يتم علي عينة من البول، بينما يجري فحص علي عينة من الدم للكشف عن وجود إنزيم "الفوسفتيز الحامضي"، وذلك كمؤشر علي وجود سرطان الدم " اللوكيميا". وقبل أن يشرع د.حلمي في شرح ما توصل إليه، يتحدث عن بعض الظروف المحيطة بهذين الاختبارين، وهي أنهما يتطلبان استخدام مواد كيميائية لإعطاء إشارة لونية في حال التعرف علي العنصر المراد الكشف عنه، ويشترط لتحقيق ذلك فصل مكونات الدم، وهو ما يجعل هناك تأخير في ظهور النتيجة، كما أن ذلك يقلل عدد الاختبارات التي تجري باليوم الواحد. وترتسم علي وجهه ابتسامة واثقة، وهو يقول: " اختبارنا يتم من خلال خطوة واحده فقط، بتحليل يجري علي الدم، دون الحاجة إلي فصل مكوناته، ويسجل النتيجة خلال فترة تتراوح بين30 و40 ثانية، بما يمكن من فحص 25 إلي 30 عينة تقريبًا خلال ساعة واحدة، بينما يبلغ المعدل في الاختبار التقليدي، عينة واحدة في الساعة". مؤشر الإصابة وتختبر المستشعرات الكيميائية الخاصة بهذا الاختبار وجود انزيمات الفوسفتيز القلوي والحامضي في الدم، ويضيف د.أيمن: "وجود انزيم الفوسفتيز الحامضي مؤشرا علي الإصابة بسرطان البروستاتا، فيما يعد وجود انزيم الفوسفتيز القلوي مؤشرا علي الإصابة بسرطان الدم (اللوكيميا) ". ويحرص علي توضيح نقطة قال أنها في غاية الأهمية، وهي أن " تقدير هذه الأنزيمات، يتم عبر اختبار وجود مواد (نفتيل فوسفيت) و(نيتروفينيل فوسفيت) في الدم، حيث تكون هذه المواد مؤشرا علي وجودها، حيث لا يوجد اختبار يستهدف الإنزيمات بشكل مباشر". كان من الطبيعي أن يثور تساؤل حول مدي دقة هذا الاختبار، ومقارنته بالاختبارات التقليدية، وهو سؤال علي ما يبدو انتظر د.ايمن طرحه، لأنه لم يمهلني اكماله، وقال علي الفور: "حصلنا علي 15 عينة من المرضي، وأجرينا عليها اختبارات بالطريقة التقليدية والطريقة الجديدة، ووصلنا إلي نفس درجة الدقة المطلوبة". ولم يكتف بذلك، بل أنه استمر في الإبهار، مضيفا: "الاختبار الجديد يرصد العنصر المراد الكشف عنه في أقل تركيز له، بينما الاختبار التقليدي، لا يري إلا التركيزات المرتفعة بعض الشيء، وبالتالي فإن الاختبار الجديد في صالح المريض، إذ يفيد في الكشف المبكر المبكر عن المرض". وليس ذلك فحسب، فقد كان حريصا علي المزيد من الإبهار، فسجل ميزة أخري سماهاب" الانتقائية العالية". وقال مفسرا هذه الميزة: "انتقاء العنصر المراد الكشف عنه ورصده يمكن أن يتم في وجود عناصر أخري يمكن أن تتداخل أثناء القياس". المخدرات في الدم كل هذه المزايا تتكرر أيضا في مستشعر آخر أنتجه د.ايمن، بهدف الكشف عن وجود المخدرات في الدم. ويستخدم في الاختبارات التقليدية للكشف عن المخدرات بالدم، جهاز يعرف باسم "كروماتوجرافيا السائلة"، ويتعدي سعر الوحدة الواحده منه الآن مليون جنيه، بينما المستشعر الجديد يوفر طريقة سهلة تستهدف اختبار وجود مادة (ديسكترو ميس أورسان) في الدم، كمؤشرا علي التعاطي. ويشير د.أيمن إلي نقطة وصفها بأنها "غاية في الأهمية"، وهي أن هذه المستشعرات وغيرها لا تحتاج إلي امكانيات مادية كبيرة في انتاجها، وهو ما يجعل هذا المجال ملائما لامكانيات مصر. ويعود إلي الحديث عن رائد مدرسة المستشعرات الكيميائية د.سعد السيد محمد حسن، قائلا: " كان من الممكن أن ينضم إلي طابور المحبطين بعد عودته من أمريكا، لضعف الإمكانيات المصرية، قياسا بما شاهده واطلع عليه هناك، لكنه اختار المجال الذي يستطيع أن ينجز فيه بأقل التكاليف". ورغم سعادته بما أنجز بأقل التكاليف، إلا أن د.ايمن لا يخفي ضيقه وحزنه من غياب التطبيق، ويقول: هناك خصومة بين البحث العلمي والتطبيق، نتمني أن تنتهي في أقرب وقت". الدقة ثم الدقة ويثني د.سامح أحمد، استاذ الباثولوجيا الإكلينيكية بجامعة أسيوط، علي هذه الأبحاث، لكنه يشدد في الوقت ذاته علي أهمية الدقة. ويقول د.أحمد: " الفكرة من حيث المبدأ رائعة ومفيدة للمعامل والمريض علي حد سواء، ولكن أحيانا في التحاليل الطبية قد تضحي بعامل الوقت علي حساب الدقة". وتشير دراسة أجرتها وزارة الصحة علي عينة من المرضي المتعاملين مع معامل التحاليل الخاصة، إلي أن نحو48% من أفراد العينة يشكون في دقة التحليل، كما أعرب نحو76% من المواطنين عن تضررهم من أسعار التحاليل الطبية..ويضيف د.أحمد: " إذا كانت أبحاث د.أيمن ستحقق الدقة وفي نفس الوقت توفر التحليل بقيمة أقل، فهذا انجاز مهم جدا". اتفاقية لم تتم معيار الدقة الذي يتحدث عنه د.سامح، يؤكد د. عاصم أبو المعاطي، مدير مكاتب التعاون الدولي ودعم الابتكار ونقل وتسويق التكنولوجيا بجامعة عين شمس، علي وجوده في اختراع د.ايمن. ويقول: " كانت هناك اتفاقية قيد التوقيع بين الجامعة وإحدي شركات القطاع الخاص لتنفيذ هذه الاختراعات، ولكن حدوث تغيير في قيادات الجامعة أوقف كل شيء". فمتي تري هذه الاختراعات النور؟.. حاولت الحصول علي إجابة من د.عاصم، لكنه اكتفي بالقول " الله أعلم".