كانت زيارتي الأخيرة إلي نيويورك في الولاياتالمتحدة استثنائية، مختلفة، رغم تعدد رحلاتي الخارجية إلي دول عربية وإلي امريكا بصفة خاصة، فنصف العائلة استوطن هناك في نيويورك، منذ سنوات طويلة، فطبيعتي الشخصية انني لأ اجيد التمتع بفرصة السفر إلي الخارج، فلست من هواة التسوق والتجول في المولات، وأنا أسرع من يشتري احتياجاته، ولا من الحريصين علي » الصعلكة » والسير بدون هدف في الشوارع والطرقات، وفي أحيان كثيرة وفي زيارات العمل لم اخرج أبدا عن البرنامج،وكثيراً ماتمر ايام الرحلة بين فندق الإقامة ومكان انعقاد المؤتمر او الفعالية، التي استدعت سفري، وعندما يكون مقر الإقامة هو نفسه مكان المؤتمر، لا أغادر الفندق سوي في طريق العودة إلي المطار. اقترح عليّ اخي عبد المنعم عندما اتفقنا علي اللقاء في نيويورك، ان يعد لي رحلة إلي بعض المدن الأمريكيةواشنطن وفيلادلفيا وشلالات نياجرا، فرحبت شاكرا،خاصة أن العاصمة هي الوحيدة التي سبق لي ان زرتها في عام 1999، لتغطية احدي زيارات الرئيس الأسبق حسني مبارك إليها، كما ان الزيارة لن تعطله كثيراً عن عمله، فقد تستمر ثلاثة ايام منها اثنان في نهاية الأسبوع، تبدأ يوم السبت صباحا وتنتهي مساء الاثنين، كما انها فرصة للاقتراب من امريكا خارج نيويورك، والتعرف علي قارة تحتاج عشرات الزيارات، للتعرف عليها بشكل كامل اذا استطعت، فأنت تتحدث عن50 ولاية في مساحة تصل إلي 8. 9مليون كيلو مترمربع في المرتبة الرابعة عالميا بعد روسيا وكندا والصين، وهي الثالثة ايضا من حيث عدد السكان، بعد الصين والهند طبعا، وبها حوالي 31 مجموعة عرقية، سواء أمريكيين بيضا او من جذور ألمانية وأيرلندية وإنجليزية وآسويين وأفارقة، وأما الاقتصاد فهنا تسمع عن الأرقام القياسية، فهي تمثل 23 من الناتج العالمي، وأكبر مستورد للسلع، وثالث اكبر مصدر. الرحلة بدأت منذ الصباح الباكر من موقع مبدئي لتجميع المشاركين إلي نقطة الانطلاق، والتي بدأت من الحي الصيني في نيويورك، خاصة أن الأغلبية منهم من دول جنوب شرق آسيا، وكنا بالطبع أنا وأخي العرب والمصريين الوحيدين في الأتوبيس،الذي يضم اكثر من 40 راكبا، الباص ليس فاخرا ولكنه بحالة جيدة، سمحت له بالسير آلاف الكيلومترات دون اي شكوي او أعطال، وكانت الوجهة الأولي في الرحلة إلي فيلادلفيا عاصمة ولاية بنسلفانيا، ومعناها باللغة اليونانية مدينة »المحبة الأخوية» أو» المدينة التي تحبك»، وتسمي ايضا مدينه التلال السبع، لأنها أقيمت علي سبع تلال، وتبعد عن نيويورك بحوالي 48 ميلا، وقد ظلت أعواما عاصمة لأمريكا، قبل اختيار واشنطن، وشهدت كل احداث اعلان استقلالها، هنا عبق التاريخ الأمريكي، رغم انه لم يمر علي مرحلة التأسيس سوي عدة قرون، اعلان الاستقلال تم في 4 يوليو 1776، هنا الحقيقة المجردة، وتتلخص في ان امريكا نجحت في »صناعة الوهم» والمهم في تسويقه للعالم، عندما تعرف ان عدد الزوار سنويا لهذه المدينة يتجاوز 40 مليون سائح، يقفون في طوابير طويلة، فقط لدخول قاعة الاستقلال، والتي تم فيها مناقشة وثيقة الاستقلال، هنا جرس الحرية الذي دق وفقا للتقاليد لاستدعاء سكان مدينة فيلادلفيا، لسماع تلاوة الوثيقة، هنا مقر الكونجرس القديم،ومركز الدستور الوطني، كل ذلك في مساحة تقدر بميل، يسمي »الميل المربع التاريخي». من العاصمة الأولي إلي واشنطن الرحلة إلي فيلادلفيا لم تستمر سوي عدة ساعات، وغادرناها في طريقنا إلي واشنطن، التي أصبحت عاصمة دائمة لأمريكا منذ 16 يوليو 1790، عندما وافق الكونجرس علي ذلك وتقع علي احد انهار امريكا المتعددة ويسمي نهر البوتماك،بها مقر الرئاسة البيت الأبيض، ومبني الكونجرس البرلمان، وبداية المزارات كانت في متحف مدام توساد، الطوابير ممتدة وفي انتظام انتظارا لدخول المتحف، وإن كان هناك مدخل خاص للمجموعات السياحية، المدخل لا يوحي ابدا بأنك امام متحف، فهو احد أبنية واشنطن العادية، بعد المدخل تجد عدة سلالم تقودك إلي الأسفل، حيث توجد تماثيل بالحجم الطبيعي لمشاهير العالم من السياسيين ورجال الثقافة، فتجد تمثالا للاري كنج مقدم البرامج الشهير في السي ان ان،والراقصة والمغنية الشهيرة بينونسيه، هنا رصد لتاريخ امريكا وتماثيل لكل رؤسائها ال44، بداية من جورج واشنطن حتي اوباما دون استثناء لأحد،المكان الوحيد في المتحف الذي يعاني من حالة زحام منظم، في الجزء الأخير منه، في المكان المخصص للرئيس اوباما وميشيل زوجته، فهناك طابور من الزائرين في انتظار الدخول إلي المكان للحصول علي صورة شخصية معهما،او الجلوس علي نموذج مكتب اوباما في البيت الأبيض، واستعمال هاتفه، وبالطبع التصوير عليه او معه، والدخول هنا تحديدا مرتبط بدفع مبلغ من المال،لم اسأل عن قيمته، لأني لم اتحمس لخوض تجربة الجلوس علي مكتب الرئيس، او التصوير معه. المتحف يسجل التاريخ ولا يقيم أداء الرؤساء، فهو ليس مسئولا عن فضيحة ووترجيت التي عصفت بالرئيس نيكسون، ولايهمه خيانة الرئيس كلينتون لزوجته والتي اعترف بها، ولا الكوارث التي ارتكبها بوش الابن في حق شعوب عديدة في أنحاء العالم، هو يتعامل مع حقائق ان هؤلاء رؤساء في تاريخ امريكا، اختارهم الشعب والتاريخ -وليس المتحف - هو من سيحكم لهم ام عليهم، هنا وتذكرت بلدي، وقلت في نفسي لو قدر لأي من حكوماتها ان تقيم مثل هذا المتحف، هل ستلتزم بالتاريخ وتقيم تماثيل لكل من تولي رئاستها،ام ان الامر سيخضع لرؤي القائمين في ذلك الوقت؟ وكانت الإجابة واضحة ان هناك من يحاول حذف وطي صفحة مرحلة كاملة من تاريخ مصر، استمرت 30 عاما، عندما لجأ موظف في وزارة التعليم، إلي حذف اسم الرئيس الأسبق حسني مبارك من المناهج، دون اي اعتبار. خرجت من المتحف وأنا علي ثقة بنجاح امريكا في صناعة الأوهام، التي تثمر ملايين الدولارات سنويا، رسوم دخول الآلاف ومبيعات اجنحة التذكارات المتواجدة في أركان المتحف، إنه التفكير خارج الصندوق. خرجنا من المتحف إلي المنطقة المحيطة بالبيت الأبيض، بالطبع تري المبني علي بعد أمتار وفي مرمي البصر، ولكن الخوف من العمليات الإرهابية دفع الأمن إلي إقامة الحواجز الحديدية، وتشديد الحراسات دون منع الزوار من الاقتراب لمساحة مناسبة، من هنا يحكم العالم، يتم تحديد مصائر دول ومستقبل شعوب، وفي منطقة قريبة من البيت الأبيض لايفصلها عنه سوي بحيرة صناعية، تجد علي اليمين النصب التذكاري للشهداء، وهو عبارة عن لوحة من الرخام، بها صور لنماذج من المقاتلين، ومجموعة تماثيل لعدد من الجنود بأسلحتهم من الحرب الكورية والعالمية الثانية، اجزاء من الرخام مكتوب عليها معلومات سريعة ومهمة، تبين إسهامات وأدوار القوات الأمريكية والأثمان التي دفعتها في تلك الحروب، من خلال رصد العدد الإجمالي للقتلي في تلك الحروب، والمصابين والأسري والمفقودين مقارنة بعدد الأمريكيين منهم، في القلب من المشهد وعلي بعد أمتار تجد المسلة المصرية التي قد تمثل أحد إفرازات تاريخ حقيقي، ولاتزوير فيه ولا ادعاء، لم ينته اليوم فمازال أمامنا رحلة بحرية في نهر البوتماك، وهو اكثر عرضا من نهر النيل بقليل، علي احد شواطئه مرسي عادي، به عدد من المطاعم والكافيهات، يقف في المرسي مجموعة من المراكب الصغيرة، تستقبل مجموعات السائحين، لتسير بها في النهر في رحلة بحرية لاتختلف عن تلك التي يموج بها نيل القاهرة، ولكنهم نجحوا في تسويق الأوهام، بادعاء ان الرحلة لمشاهدة مبني البنتاجون، رغم انه بعيد بمسافة عن النهر. الوقوع في » الفخ » لم تنته جولات الرحلة، لنكتشف اننا امام التفكير خارج الصندوق، وخلق مناطق جذب سياحي، قد لا تتميز بشئ مختلف او استثنائي، سوي أفكار البشر ومقترحات المتخصصين، وهذا ما يظهر في المغامرة التي كان عليّ خوضها، في منطقة بها حديقة وتكنس جلين،وهي عبارة عن غابة من الأشجار الكثيفة، علي قمة جبل قمنا بالصعود إليه بالأتوبيس، لنبدأ منها رحلة الهبوط سيرا علي الأقدام، وهناك من يفضل العكس، ليبدأ من الساحة امام الجبل في طريقه للصعود إلي اعلي، نموذج الجبل لا يختلف في شئ عن ذلك الموجود في لبنان، او في مناطق أخري من العالم العربي، او حتي في جنوبسيناء، ولكن الفرق هنا في الاستثمار السياحي، حيث تدخلت أيادي البشر لشق طريق للسير الأفراد، لا يتجاوز مترين او اقل، وتتنوع أشكاله، مرة يصبح عبارة عن سلالم عليك استخدامها في الهبوط او الصعود،او طريق يستمر عدة أمتار يستهدف التقاط الأنفاس، وأحيانا ثالثة تجد الطريق كما لو كان مشقوقا كالكهف داخل الجبل نفسه، وفي مناطق أخري تجد بركة مياه، وأخري تتساقط المياه علي مرتادي التسلق او الهبوط، من ينابيع من داخله، المشهد بديع خاصة مع الأشجار والنباتات التي تكسو جنبات الجبل. بعد دقائق من بداية الرحلة، يكتشف أمثالي من الذين لم يتعودوا علي المغامرة، او حريصون علي مثل هذه التجارب، انهم وقعوا بالفعل في» فخ»، فالخوف من السقوط بدأ يجتاحني، وأحيانا يشل تفكيري، فكرت في العودة حيث كنت،ولم استحسن الفكرة،فالخطر هو الخطر، اسمع ضحكات الشباب والشابات حولي، وبعضهم في رحلة الصعود، فأشعر بالخجل، من عدم قدرتي علي استكمال المغامرة، اري ابتسامة طفل مع والديه فيتولد لدي عزيمة في استكمال المغامرة، والقضاء علي مشاعر الخوف داخلي، أتأمل عظمة الخالق وعظمة خلقه في كل ذلك المشهد المحيط بك، من طبيعة خلابة، وقدرات البشر علي التفكير والإبداع، فيطمئن قلبي وأمني نفسي كل فترة بقرب الانتهاء من تلك المغامرة بسلام، والخروج من هذا الفخ، واستمر الحال علي ذلك حوالي الساعة حتي وصلنا إلي السفح، وشعور طاغ بالسعادة يجتاحني بعد ان نجحت في امتحان التحمل والقدرة، علي تجاوز المصاعب، واجتياز تلك المغامرة التي لم يسبق لي ان مررت بها، وأفكر في بلدي وحاله والذي يعيش فقط علي آثار الأجداد، دون اي جهد او اضافة او ابتكار من الأبناء والأحفاد، في البدء كانت الفكرة، فمغامرة صعود او الهبوط من الجبل لاتحتاج إلي استثمارات، سوي عمليات شق الجبل، وتمت لمرة واحدة مع قليل من الرعاية، نفس الشعور بالحسرة اجتاحني في زيارة لما سمي متحف حربي،وأقيم علي الحدود الأمريكية الكندية، التي يفصل بينهما نهر نياجرا، لاشئ هناك سوي مجموعة من المدافع القديمة، والقواذف من النحاس،التي قد تجد مثلها هنا في السبتية، ولكنهم خلقوا من ذلك كله مقصدا سياحيا، ومحاولة اعادة الزائر إلي نفس اجواء سنوات مضت، ومن ذلك الاستعانة بعدد من الرجال كبار السن،يرتدون نفس ملابس الجنود، ولامانع من ان تخرج سيدة ترتدي ملابس التمريض، وهي تسير في جنبات المتحف،ومجموعة من الحصون القديمة والدشم علي حالها. هنا الشلالات لا يختلف الامر كثيراً عند شلالات نياجرا، التي تمثل نموذجا للتمازج بين الطبيعية، باعتبارها احدي الظواهر الكونية، دون اي تدخل بشري، وبين القدرة علي استثمارها سياحيا، والنجاح في جعلها مقصداً من اهم المقاصد السياحية علي مستوي العالم، فهي شلالات غزيرة علي نهر نياجرا، وتقع بين ضفتي مدينة نياجرا علي الجانب الأمريكي والكندي،وأعلي ارتفاع لها من الجانب الأمريكي 56 مترا، ومن الكندي 54،وهي اعلي معدل لتدفق المياه في العالم وتقدر ب168 ألف متر مكعب في الدقيقة، وتمثل احدي مناطق الجذب السياحي علي مستوي ليس امريكا فقط، ولكن لكندا ايضا ، وتجسد إمكانيات التعاون والاستثمار المشترك بين دولتين جارتين، فهناك رحلات عن طريق المراكب السياحية بين الجانبين، مع التزام باللون الأزرق في كل ما يتعلق بالجانب الأمريكي، والأحمر فيما يخص الكندي، بعد ان تقوم بالنزول بالمصاعد إلي مستوي النهر، ليستقل السائحون المراكب لخوض احدي المغامرات التي لم استطع القيام بها، بعد مغامرة الهبوط من الجبل،واكتفيت بالمشاهدة من اعلي بالعين المجردة، او عن طريق مجموعة من النظارات المكبرة، مثلما هو الحال في قمة برج القاهرة، والمركب في دوامات الشلالات تتقاذفه الأمواج، يقترب منها ليستكمل رحلته إلي الجانب الكندي، نفس الأمر يتم بالنسبة للزوار من الجانب الآخر بلون مختلف هذه المرة باللون الأحمر، ناهيك عن تجربة المشاهدة لبانوراما المكان كله من الجو، عن طريق »التلفريك » مثل ذلك المشهور في لبنان. الصورة من الجانب الآخر لا يختلف احد علي ان مصر في حاجة إلي عوائد السياحة من دولة مثل امريكا، وقد تعلمنا ان السياحة هي قاطرة التنمية، التي تجر وراءها عشرات الصناعات والنشاطات التجارية، كما أنها احد موارد النقد الأجنبي للموازنة المصرية، وتعتمد عليها ملايين الأسر والأفراد، ومع ذلك لدي ملاحظتان تفسدان اي جهد للترويج للسياحة، الأولي ذلك الزحام البشع وغير المنظم في المطار الجديد كل صباح، عند الدخول وقبل الوصول إلي مكاتب شركات الطيران، وهو الموعد الذي تبدأ فيه رحلات الشركة الوطنية، وقد استغرق وصولي إلي البوابة الخاصة بالتفتيش الأولي حوالي الساعة،دون ان يكون هناك نظام، وأتساءل: لماذا لايتم فتح تلك البوابات في تلك الساعات، خاصة أن الامر متكرر في كل يوم؟ وقد سمعت من احد المسئولين اغرب تبرير، هي قلة العمالة،لااعرف هل يقصد من الشرطة، وهم من يتولون مسئولية الأمن، ام من العاملين في المطار، والثانية في طريق العودة من نيوريورك، وعلي الشركة الوطنية، وفي رحلة تستمر حوالي عشر ساعات ومعظمها ليلا، تسأل عن بطاطين، يقولون العدد ناقص، وتنصحني احدي المضيفات بضرورة الشكوي، لأن الوضع مستمر منذ ايام، وليس هناك اي رد علي شكوي طاقم الطائرة. ردود علي يوميات سابقة اتصل بي الصديق العزيز السفير احمد قطان، وأثني علي الاقتراح الذي جاء في يوميات سابقة، ان يكون الحوار في المنتدي الثقافي رياض النيل الذي يقيمه في منزله شهريا، لمناقشة احدي القضايا الفكرية والثقافية، وضرورة ألا يقتصر الحوار علي المثقفين المصريين، وقال لي »الموضوع محل اهتمام، وفي القريب سيكون هناك ضيوف سعوديون في المنتدي، لإثراء الحوار مع النخب المصرية، التي تشارك بصفة منتظمة».. وذكر ان هناك موافقة مبدئية من وزير الدولة للشئون الخارجية السعودي نزار مدني، ونحن في الانتظار. كما أرسل المهندس شريف عصمت عبد المجيد، مشيدا بيوميات »في الأمانة العامة كانت لنا ايام» خاصة الجزء الخاص بوالده المغفور له بإذن الله الدكتور عصمت عبدالمجيد.