برحيل الأستاذ عبد العظيم مناف تفقد مدرسة الصحافة المستقلة مؤسسها وناظرها.. ونفقد آخر الرجال المحترمين والذي لم تكتفِ مدرسته بتكريس مباديء وقيم المهنة بل حفرت مجري رئيسياً للوطنية والعروبة والأخلاق.. كما ألقت سجايا ومزايا ناظر المدرسة بظلالها علي تلاميذه باستثناءات نادرة ولكنها فجة وزاعقة !!.. وكنا نداعبُ الأستاذ عبد العظيم بمطالبته بالتكفير عن ذنبه بلا توقف لأن فضائح مَن شذوا من تلاميذه فاقت فضائل الأغلبية الساحقة التي كانت ولاتزال تقبض علي شرف مهنتها.. وكان رحمه الله يرد ضاحكاً »ألا تغفر لي كل النجوم المتلألئة في فضاء الصحافة حتي تحاسبوني علي شذوذ شخص أو اثنين»؟!!.. الكلام عن مناقب ومكارم عبد العظيم مناف يحتاج إلي مجلدات.. ومَن لم يسعدهم الحظ بمعرفته عن قرب ربما يظنون ما سأكتُبُه عنه ضرباً من المبالغة والخيال أو حديثا عن رجل من كوكب آخر.. ولهم كل العذر إن فعلوا فهو شخصية أسطورية بكل المقاييس.. لو تحدثت عن الثقافة والبلاغة والذائقة الأدبية فهو بلا نظير بين معاصرينا.. وكان له قدرة عبقرية علي صك مصطلحات لُغوية بالغة الدلالة وخاصة عندما يصف خصوم عبد الناصر وأعداء العروبة ودعاة التطبيع مع العدو الصهيوني.. ولكنه لم يعرف الفُجر في الخصومة ولم يتخلَ أبداً عن عِفة اللسان التي كانت تاجاً علي رأسه.. ولم يتفوه طوال معرفتي به بلفظ خارج أو خادش للحياء.. بل كان وجهه يحّمَرُ خَجَلاً وتتغير ملامحه إذا زَلَّ لسانُ أحدنا في خضم النقاش وشتم واحداً من بارونات الفساد أو عتاة المنافقين أو باعة الأوطان بلفظ عادي مما يقال في الحوارات اليومية أو في برامج التليفزيون، ولكنه غريب علي قاموس هذا الأستاذ المهذب الذي لا ينتمي إلي زمننا!!.. والتواضع سِمة رئيسة وغالبة لدي ناظر مدرسة الصحافة النظيفة.. يجلِس فخوراً بين تلاميذه صامتاً ومستمعاً بكل جوارحه لحواراتهم وثرثراتهم الصاخبة في السياسة وفي كل شئون الحياة، ولكنه لا ينبس ببنت شفة، وهو المثقف الموسوعي والمتحدِث اللبِق والخطيب المُفوه، إلا إذا دعاه أحد المتحاورين قائلاً » دعونا نستنير برأي الأستاذ».. أما عن الكَرَم، فحدِث ولا حرج.. وهنا يبرز الجانب الأسطوري في شخصية عبد العظيم مناف.. وهنا أيضاً سيبدو حديثي خيالياً لكل القراء باستثناء مَن عاشروا الأستاذ أو رأوا نماذج مماثلة في الأرياف بالذات.. وأنا شخصياً أُقدِس الكرم والكرماء.. وعاصرتُ عمي الكبير الشيخ مصطفي النقر الذي توفي قبل نحو نصف قرن ولاتزال قريتنا تتناقل حكايات كالأساطير عن كرمه و»عزوماته» الباذخة التي كلفته عشرات الأفدنة من أجود الأراضي!!.. وكرر الأسطورة صعيدي آخر باع عشرات الأفدنة التي ورثها عن والده في بني سويف وغيرها من الممتلكات للإنفاق علي حلمه ومدرسته الصحفية وعلي كرمه اللامحدود!!.. وفي كل مقهي أو مطعم يدخله عبد العظيم مناف بالقاهرة تشعر بأنه صاحب المكان إذ سرعان ما يلتف حوله جميع العاملين فرحين ومرحبين فهم يعرفونه جيداً لسببين.. الأول أنه من المستحيل أن يدفع أحد الحساب في وجوده.. والثاني أنهم ضمنوا »بقشيشاً» سخياً قد يقترب أحياناً من مُجمَل الحساب!!.. هذه لمحة مختصرة عن الجانب الإنساني لفارس الصحافة الذي فقدناه (وهناك بالقطع جوانب أخري مهنية ونضالية يمكن لغيري تناولها بصورة أفضل) رأيتُ أن من واجبي تسجيلها كشهادة للتاريخ عن مناضل وطني شريف كانت آخر أمانيه في الميدان أن تنجح ثورتنا الأعظم في تحقيق أهدافها.. بل وعدنا ب»عزومة » كبري بقريته »منشأة الحاج» يذبح فيها »بعروراً» (جمل صغير) لو تحققت هذه الأمنية الأعز.. وتشاء الأقدار أن يرحل تاركاً لنا الحزن والحسرة والبعرور، لأن ثورة يناير لم تنجح بعد!!..