عندما رزته فى المستشفى قبل ثلاثة أسابيع،حيث كان يقضي ايامه الاخيرة فى صراعه مع المرض،قابلني بابتسامته المعهودة وبشاشته عند لقاء ايا منا،نحن من خطونا اول خطوات مشوارنا فى بلاط صاحبة الجلالة فى مدرسة صوت العرب، وبالرغم من الوهن الذى أصاب جسده النحيل استمر فى الترحاب والسؤال عن الابناء والاحوال،وماكانت كلماتي التى رجوته فيها بالراحة من الكلام،الا حافزا لمزيدا من الترحاب المعهود،وعندما كنت اتوجه بالحديث الى أبنتيه ندى وشيماء ووالدتهم،كان يقطع حديثنا مرحبا"يأهلا بالاستاذة"..هذا هو عبد العظيم مناف الانسان الذى ارتبطنا به مهنيا وانسانيا لمايقرب من ثلاثة عقود..فكان الأب الحنون الحاضر فى كل المناسبات الاجتماعية ،والودود فى اللقاءات ،و الفصيح فى إنتقاء مفردات اللغة ببلاغة عند الحديث فى المناسبات العامة. هو القطب الناصري ومؤسس جريدة صوت العرب ودار الموقف العربي فى اواخر الثمانينينات من القرن الماضي،هو صاحب الرأي الذى لم يتغير عبر سنوات طوال والمعادي للولايات المتحدةالامريكية ومخططاتها فى المنطقة العربية،وهو ايضا المعادي لفكرة التطبيع مع "العدو الصهيوني"والذى لم يلين بالرغم من كل الضغوط التى تعرض لها من نظام حكم مبارك وتعرضت صحيفته"صوت العرب"للاغلاق فى العهد الذى كان يتغنى فيه منافقوه بانه لم يقصف فيه قلم ولم تغلق صحيفة . و تم اعتقال"مناف" فى عصر السادات ضمن اعتقالات سبتمبر فى العام 1981،والتى ضمت عددا كبيرا من معارضي نظام السادات وعلى رأسهم الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل ورموز العمل السياسي والنقابي والطلابي فى ذلك الحين. كانت صوت العرب ومجلة الموقف العربي التى اتخذت شعار"صوت مصر فى الوطن العربي وصوت العروبة فى مصر"،مدرسة تخرج فيها عددا كبيرا من رموز العمل الصحفي والاعلامي فى وقتنا الحاضر،وكان الراحل العظيم قد ضم أسماء عددا كبيرا من كبار الكتاب الذين شاركوا وأسهموا بأرائهم ومواقفهم فى مجلة الموقف العربي،فى لوحة كبيرة تصدرت مدخل مكتبة دار الموقف العربي فى شارع قصر العيني،كمانشر ايضا على صفحة كاملة أسماء الصحفيين من جيل الشباب الذين عملوا معه فى بداية مشوارهم المهني ،وشاركوه تجاربه قبل أن تتفرق بهم السبل فى تجارب أخرى حيث شغلوا مناصب قيادية فى كبريات الصحف فى وقتنا الحالي. كنت ضمن مجموعة من هؤلاء الشباب الذين خطوا خطواتهم الاولى فى بلاط صاحبة الجلالة فى جريدة صوت العرب ،حيث مقرها فى 1065شارع الكورنيش بجاردن سيتي،ومقرها فى الاصدار الثاني فى 10شارع حندوسة فى الجهة المقابلة لمستشفى قصر العيني الجديد،وكان الكاتب الصحفي محمود المراغي مستشارا للتحرير،بينما كانت زوجته الكاتبة والمحررة البرلمانية بمجلة صباح الخير نجاح عمر رئيسة قسم الاخبار،أما الكاتب احمد عزالدين فكان يتولى رئاسة قسم التحقيقات ،والكاتب عبد الله السناوي رئيسا لقسم الشئون العربية،والمثقف أسامة عفيفي رئيسا للقسم الثقافي،بينما كان محمد حماد سكرتيرا للتحرير،وكان العزيز على قلوبنا فتحي عبد الفتاح مديرا اداريا للدار. كان الجو الأسري الذى يغلف أجواء العمل بجريدة صوت العرب بمختلف اصدراتها سواء فى نسختها المصرية قبل الغلق،أو فى اصدار لندن،كفيلا بنشوب علاقات صداقة بين شباب الصحفيين إمتدت حتى يومنا هذا،عماد الدين حسين وطلعت اسماعيل وعادل السنهوري وأكرم القصاص وخالد صلاح وعبد الفتاح عبد المنعم وعبد الفتاح طلعت وبهاء حبيب وحمدي عبد الرحيم وسعيد شعيب ومنال الصاوي،وغيرهم... عرف"أبو وليد"نسبة الى أبنه الاكبر الزميل وليد مناف،بالعروبي الذى إنحاز لفكرة الحرية والاشتراكية والوحدة،والتى كانت عنوانا بارزا فى كل اصداراته، عارض نظامي السادات ومبارك ،فى وقت كانت فيه معارضه الحاكم له أثمان باهظة دفعها بشجاعة منقطعة النظير،فكان قلمه سيفًا للدفاع عن عروبة الوطن وسوطًا للنضال لأفكاره وقضاياه الوطنية، لم يعرف عنه انه هادن يومًا من أجل منصب أو جاه أو سلطة،ولكنه كان يناضل مدافعا عن أفكاره حتى الرمق الأخير ، ولم يدخر جهدًا للدفاع عن إيمانه القومي العربي وعطائه لقلب العروبة مصر ولقضية العرب المركزية فلسلطين. فى سيرة عبد العظيم مناف العديد من المحطات التى بدأها فى النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي حيث أصدر مجلة الموقف العربي شهريًا، فكانت منبرًا عربيًا يتسع لأراء أصحاب الفكر والموقف الواحد،ووقفت المجلة فى الخندق المضاد لاتفاقية «كامب ديفيد» وفتحت صفحاتها للكثير من رموز الفكر والسياسة. بعد خروجه من اعتقالات سبتمبر، وهي الحملة التى شملت أكثر من 1500 من الرموز السياسيين، من بينهم محمد حسنين هيكل، وعصمت سيف الدولة، وفتحى رضوان، وفؤاد سراج الدين، وغيرهم، بعد اغتيال السادات يوم 6 أكتوبر 1918، واصل مناف مسيرته بإصدار مجلة «الموقف العربي» بعد أن حظرها السادات، ولكن كان إصدارها في المرة الثانية عبر مؤسسة حملت اسمها، حيث ضمت ايضا مكتبة ودار نشر. كانت"صوت العرب" التى تأسست فى عام 1987 كجريدة أسبوعية، منبرا اعلاميا معارضا لنظام حكم مبارك، حتى ضاق بها النظام فقرر إغلاقها فى تعد واضح على حرية الصحافة ،كما أغلق ايضا مجلة الموقف العربي،ففى احد اعداد المجلة الصادر فى مايو 1988 وتحت عنوان"عفوا رئيس الجمهورية" كتب عبد العظيم مناف فى مقاله"وللموقف كلمة" يقول"نربأ بك ياسيادة الرئيس أن تكون ممن لايعاديهم ليفي وشامير،وقد كنت فى يوم مشرق عظ ممثلة فى يم قائد لضربة طيران عربي ضد العدو الصهيوني،وقد ارسلت جواسيسهم الى تونس ممثلة فى الصيدلي الذي اختفي عقب عملية حمام الشط الاولى وقصف المنظمة،فهل تتوقع ياسيادة الرئيس ان يكون دورك غائبا عن اسرائيل،هل تنتظر حتى يحدث لنا ماحدث فى تونس ،ونبحث عن الجاسوس بعد فوات الاوان. وقال فى موضع اخر من نفس المقال منتقدا اداء مبارك على المستوى الداخلي،فقال"ترى ماذا يقول العالم عن محمد حسني مبارك أو الجمهورية الثالثة خاصة فى ظل هذه الديون وهبوط الدخل حتى مياه النهر فى بحيرة السد..ترى ياسيادة الرئيس ان تكون المرحلة بلا انجاز كبير أو قرار كبير ،وهل يستقيم هذا مع وضع مصر ،الموقع والموقف وهى التى اعتادت اتخاذ القرار الكبير وعود ت اشقائها على الموقف الكبير". ومع تراجع مواقف الكثيرين تجاه فكرة العروبة والعداء لإسرائيل، لم يتزحزح عبد العظيم مناف قيد أنملة عن طريقه.. ووقفت مجلة «الموقف العربي» وصحيفة «صوت العرب» في تحد واضح تقاوم التطرف والإنكفاء والتطبيع، وتتحدى المفسدين والطغاة.. وكان ذلك خطا أحمر لا يجب تجاوزه.. وكان يعلم أن هناك ضريبة واجبة الدفع ثمنا للتصدي لأولئك الذين ملأوا الأرض فسادامن اصحاب نظرية الانعزال والانكفاء على المصالح الشخصية.. وكان يدفعها راضيا وقانعا من ماله وجهده واستقراره. لم يكن نشاط «دار الموقف العربي» قاصرا على الإصدار الصحافي بل طبعت ونشرت ووزعت أهم المؤلفات والدراسات الوطنية والقومية، وغطت الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه.. وصدرت عنها دراسات وكتب علمية وفكرية وتاريخية وفلسفية عن الوطن العربي ومستقبله.. كان قرار مناف، بتحويل دار الموقف العربى إلى مكتبة عامة، جزء من رسالته التى قطعها على نفسه، وجزء من إيمانه العميق بأهمية الثقافة والقراءة، وكانت الموقف العربى أولى دور النشر التى تقدم الكتاب المسموع فى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين، وتم تقديم كتب تاريخ وأشعار لصلاح جاهين بأصوات كبار النجوم، وأشعارا وكتب تاريخ أخرى مسجلة على شرائط كاسيت فى تجربة فريدة من نوعها فى ذلك الحين تحت اسم الكتاب المسموع ايمانا منه بضروره نشر الوعى والعلم والثقافة بأحدث التقنيات وتماشيا مع التطور الحديث فى ذلك الوقت الذى لم يكن الكمبيوتر معروفا فى المجتمع المصرى ولا غزت فيه الشبكة العنكبوتية البيوت، فكان ذلك تيسيرا على القارئ الذى لايجد وقتا بسبب مشاغل الحياة. بعد إغلاق جريدة صوت العرب بسنوات،لم ييأس ولم يستسلم مناف فى محاولاته لتوصيل رأيه ورسالته،فأصدر الجريدة من جديد بترخيص من لندن،حيث أقام لعدة سنوات،ثم بترخيص من قبرص،حيث كانت المادة الصحفية تعد من القاهرة ،ثم يتم طبعها وتوزيعها،وهنا نذكر الزميل على عبد الجواد رحمه الله ،الذى كان يحمل المادة الصحفية اسبوعيا للمطابع بقبرص، وعلى الرغم من الكلفة المادية العالية لهذا الاجراء الا انه استمر لفترة ،قبل ان يحصل من جديد على ترخيص الموقف العربي التى صدرت اولا مجلة ثم جريدة ،ضمت من جديد زملاء من شباب الصحفيين،وأستمرت فى خطها السياسي الى ان توقفت،بفعل التضييق على مواردها المادية. كان عبد العظيم مناف حاضرا فى كل المناسبات المهنية والسياسية وفى المحطات المهمة فى تاريخ الوطن،فأثناء ثورة 25 يناير كان يشارك الشباب ميدان التحرير ويتحمل ايذاء قنابل الغاز ومطاردات الامن شأنه شأنه الشباب،وفى نقابة الصجفيين لم يغب الرجل يوما فى اى جمعية عمومية او انتخابات نقابية،وكان يمضي يومه كاملا بين زملاء المهنة الذين كانوا يلتفوا حول الاستاذ والمعلم. تركنا الكاتب عبد العظيم مناف، بجسده، لكن أرائه وأفكاره ومعتقداته تركها أرثًا لنا في كتبه ومقالاته، ومنها كتاب "هذا عراقنا وهذه عروبتنا"، وكتاب "العراق وأمريكا التحدي الذهبي"، و"دفاعا عن العروبة"... "أباوليد"..لانقول وداعا..بل سنظل نذكر حنو مشاعرك وكلماتك الدافئة وصلابة مواقفك وكرمك"الحاتمي"..حسبنا انك تركت لنا نبراسا نهتدى به فى الرجولة والشجاعة وصلابة الموقف..خالص العزاء لأسرتك ومحبيك وتلامذتك.