مُريد رومانسي، قرين مُحْترف، ومؤلِّف هاو متسام. هكذا تصف فرنسيس ويلسون، توماس دي كوينسي في بداية كتابها السيري الجديد عن حياته. استهلال مُتقن لكتاب يقتنص شكلًا وموضوعًا شيئًا ما مِن التقلّب والتشوش البارعين اللذين لازما الشّخصيَّة محور الكتاب. تكتب ويلسون: لقد صدرت سير رفيعة عديدة عن دي كوينسي، لكن ليس بينها لحدّ الآن سيرة دي كوينسي نفسه. هناك عدد وافر من الاستعراضات الأسلوبيَّة التي تليق بدي كوينسي هُنا. العبارات الرشيقة تئز عبر الصفحات شأنّها شأن قصاصات الشّعر والتحولات السرديَّة والتفاصيل المروِّعة بمختلف جرائم القتل المعاصرة التي طالما فتنت دي كوينسي. تطبع ويلسون خارطة سردها لحياة دي كوينسي وفق بنيان قصيدة وردزورث السيريَّة المقدمة، ومن ثمّ تستمر لتنتزع فخار السيرة الذّاتية الرومانتيكيَّة ذلك وفق اللخبطة التي تمليها حياة دي كوينسي. والنتيجة كتاب شائك ومبهر تتزاحم فيه كثرة من الأفكار والصور المتنافسة من أجل السيادة. لا تبدأ ويلسون سردها لتاريخ حياة دي كوينسي بمولده عام 1785، بل بوفاة شقيقته إليزابيث عام 1792. كانت إليزابيث بالتاسعة من عمرها حين كان دي كوينسي في السّادسة. وهو يُعيّن موتها في كتاباته السيريَّة بوصفه اللحظة التي أدرك فيها حقيقة الشرط الإنساني: نجئ إلي هذه الدّنيا وحدنا، ونغادرها وحدنا. هذا الحسّ المرهف بالوحدة الذي عززه الواقع والخيال، لازم دي كوينسي طوال فترتي طفولته ومراهقته، جنبًا إلي جنب تقدير متزايد لطبائع حياته الأدبيَّة. ذلك أنّه عثر علي نسخته المبكِّرة من صوته الأدبي من خلال قراءة الأغنيات الشعبيَّة إلي جانب حسّ بالخطر وبإمكانيات حياة انقضت وزالت خارج حدود البيت. صار وردزورث هوسًا، هكذا انطلق الشّاب دي كوينسي برحلة جنونيَّة إلي جراسمير حين أمل في لقاء بطله. هرب دون تقديم نفسه، وأطلق العقال لها متسكِّعًا في شوارع لندن، يتواري بين الفقراء ملئه الرغبة في اكتشاف جوهر ذاته. كان قَد نكص عن الحياة الجامعيَّة في أوكسفورد دون إنهاء درجته الجامعيَّة، يجوز بسبب الأفيون الّذي كان قد جعله بالفعل أكثر تهورًا وقابلية للتأثر بالآخرين. في النّهاية، نصّب نفسه نزيل وردزورث والمتطفِّل عليه في دوف كوتاج، محل كولريدج: بوصفه صديق وردزورث الوضيع. هناك تعلّم أنّ المرء كي يصبح صديق وردزورث ليس بالأمر الهيّن، والعلاقة العارمة بين الرجلين تقع محل القلب في رواية ويلسون. لقد كاد الجنون يعصف بدي كوينسي حين اكتشف أنّ وثنه يُمكن أن يكون تافهًا، قاسيًّا ومتطلِّبًا. كتب دي كوينسي: إيّاك أن تصف وردزورث أنّه صنو الشيطان في الغطرسة، لكن لو واتتك الفرصة لكتابة سيرة الشيطان، ضع في حسبانك تلك الاحتماليَّة، فيما يتصل بالغطرسة، ربما كان الشيطان تنويعًا ما علي وردزورث. من جانبه، ألفي وردزورث دي كوينسي آسرًا للب حينًا، ومثيرًا للسخط حينًا آخر. لقد قدّم الأخير نمط الإعجاب المهووس الذي ترعرع عليه الشّاعر، وقد أخل بالحياة العائليَّة أيضًا، دون أن يكفّ عن المطالبات العاطفيَّة منتحلًا وفاة ابنة وردزورث، كاثرين، ليزج بها إلي مأساته الخاصّة. حين أعلن دي كوينسي نيته الزواج من فتاة محليّة اسمها مارجريت سيمبسون، كان رفض وردزورث بالغ الحِدّة درجة انقلب معها من مُلاحَق إلي مُلاحِق، متعقبًا نهار دي كوينسي وليله في مسعي لفسخ العلاقة. كتب دي كوينسي لاحقًا: أصابني ذلك بالجنون آنذاك، ولا يزال الآن. لقد ألفيت نفسي في الموقف ذاته كل ليلة تقريبًا. لقد شكّلت زيجة دي كوينسي من مارجريت نقطة تحوّل بعلاقته مع وردزورث، متسببة بإندلاع أحقاد متزايدة بين أسرتيهما. الآن وقد تحرر من عبء أن يكون كبير معجبي النابغة، عثر دي كوينسي أخيرًا علي صوته وشرع بإنتاج كتابته الإعترافيَّة المضطربة الباهرة التي جلبت له الشّهرة. لقد صنع اسمه بنصّ "اعترافات آكل أفيون إنجليزي"، وهو مقال أحيانًا ما يضطلع بفضل جعل المخدرات أمرًا مطابقًا لذوق العصر. في الحقيقة، كما تكشف ويلسون، كانت الحياة البريطانيَّة مشبّعة بالأفيون: نساء الطبقة الوسطي كُنّ ينهرن فوق أرائكهن منقوعات في ضبابه، حتّي الكلاب والأطفال لم يفلتوا من قبضته. تمثّلت عبقرية دي كوينسي في جعل المألوف المدقع، لافتًا للنظر وغريبًا. وقد كرر الشيء نفسه في تحفته الأدبيَّة "عربة البريد الإنجليزيّةَ"وفي "عن جريمة قتل اُعتبرت أحد الفنون الجميلة". القتل ثيمة ثابتة هنا تكشف الطريقة التي استجاب بها دي كوينسي للعنف إبداعيًّا. لقد عزل القتل، بحسبه، الجاني والضحية عن: مدّ العلاقات الإنسانيَّة العاديَّة وتعاقبها. لقد جعلت كل من طرقت بابهم يعون أنّ: عالم الحياة العاديَّة قَدْ توقّف بغتة- غفي نائمًا- توجعه هدنة هامدة: لابد أنّ الزمن هلك وانفسخت العلاقات بالأشياء. لقد اختلق القتل لدي كوينسي ما تدعوه ويلسون بموضع آخر: مسرحًا للرحابة التي لا حدّ لها. لحظة يُمكن خلالها رؤية مدي ضخامة الوجود بشكل خاطف. في سنواته الأخيرة خبت شهرة دي كوينسي بسبب حجم ديونه، التي استنزفت اللون والحماس في نهاية المطاف من كافّة جوانب حياته. مات عن عمر بلغ 74 عامًا سنة 1859. في فراش الموت جابهته رؤيا شقيقته المتوفاة منذ سنوات طوال: رأته ابنته من خلال ذراعيه المفتوحتين ينادي علي شقيقته أثناء طلوع الروح. كانت خاتمة مسرحيَّة تليق بحياة صنعت من اليومي فنًّا عظيمًا. عن الجارديان