في ظل العنف المتصاعد في الشرق الأوسط بصفة عامة، والمناطق العربية بصفة خاصة يأتي كتاب"عنف وسياسة في الشرق الأوسط"، من سايكس بيكو إلي الربيع العربي" لبيير بلان وجان بول شانيولو وترجمه محمد عبد الفتاح السباعي، وصدر حديثا عن دار روافد للنشر والتوزيع، ليضيف بعدا جديدا لمشاهد العنف التي تطالعنا كل يوم، فالباحثان يحاولان في هذا الكتاب البحث عن جذور العنف وأسبابه، ويقومان باستقصاء الأحداث التي رسمت خريطة الشرق الأوسط منذ مطلع القرن العشرين وحتي ما يُعرف بالربيع العربي.وربما ما دفع الباحثين إلي تأليف هذا الكتاب ما أعلناه في مقدمته مؤكدين علي أن" الشرق الأوسط يمر بعدد من المتناقضات العميقة التي تجعله من أكبر المناطق غير المستقرة في العالم".إذن الأحداث والاضطرابات التي تمر بها المنطقة هي المحفز الأول لتأليف هذا الكتاب في محاولة جادة ومنهجية لاستقصاء أسباب العنف، والبحث عن جذوره، فهذا العنف المستشري في منطقتنا العربية مجرد عرض لأمراض قديمة قارب عمرها المائة عام، فلا تأتي من فراغ، ولا يكفي فقط أن نقول دون تأمل وتعمق إن الاستبداد أو غياب الديمقراطية هو سبب مباشر من أسباب العنف، بل يجب أن نوقف الأحداث التاريخية الكبري في المنطقة ونتأملها تأملا تحليليلا يتيح لنا معرفة أسباب ما يحدث من اضطرابات في المنطقة. اتسم المنهج الذي اتبعه الباحثان في هذا الكتاب بالدقة العلمية والوثائقية التي تتيح لهما أن ينالا مصداقية القارئ، فقد اعتمدا في هذا الاستقصاء والبحث العلمي، في محاولة للكشف عن أسباب العنف، علي عدد من الوثائق التاريخية الهامة التي أثرت، بل وصنعت تاريخ المنطقة العربية في قرن مضي وحاضر راهن ومستقبل غير واضح المعالم. يقترح الباحثان عبر الوثائق الكثير من القراءات والقراءات المضادة.ويأتي علي رأس هذه الوثائق مذكرات ومراسلات السير الإنجليزي مارك سايكس والقنصل الفرنسي الأسبق في بيروت جورج بيكو، وهما من صنعا اتفاقية تقسيم المنطقة العربية في بدايات النصف الأول من القرن العشرين، كما اعتمد الباحثان علي مراسلات الشريف حسين أمير الحجاز آنذاك والسير هنري مكماهون المفوض البريطاني الأعلي في مصر، فضلا عن مذكرات الرئيس الفرنسي شارل ديجول.يسعي الباحثان في هذا الكتاب إلي استقصاء أسباب العنف والأيديولوجيات التي تؤسس له. قُسم الكتاب إلي مقدمة وخاتمة وخمسة فصول، يعود المؤلفان في المقدمة إلي الأسس المعرفية التي انبنت عليها أيديولوجية العنف السياسي، ويكشفان من خلال تحليل الخطاب في المراسلات والوثائق التي سبق ذكرها. في الفصل الأول يتحدثان عن البواكير الأولي للعنف، حيث الاستعمار، ووقوع الشرق الأوسط ضحية موقعه الاستراتيجي بين جنوب آسيا وأوروبا، مما جعله مطمعا للاستعمار، بل وزاد من الفكر الكولونيالي فيه تمتعه بثروات طائلة من نفط وغيره، وكذلك لكون الشرق الأوسط مرجعية لما هو مقدس في حياة البشرية، حيث يعتبر مهد الأديان الأكثر شعبية في العالم: اليهودية والمسيحية والإسلام. وأخيرا حفر قناة السويس به مما زاد من أهميته الاستراتيجية. استفاض الكاتبان في وصف الصراع الاستعماري بين الامبراطورية البريطانية وفرنسا وذلك التنافس الحاد بينهما في الهيمنة علي الشرق الأوسط.كما تحدث الكاتبان عن الامبراطورية العثمانية الزائلة، وكيف مكنت القوتين الأوربيتين من استعمار الشرق الأوسط مما ولد عنفا وعنفا مضادا، سواء كان عنفا داخليا أو خارجيا. ثم يصل المؤلفان إلي قيام دولة الكيان الصهويني والعنف المنظم الذي مارسته ضد الفلسطينيين، ثم تحدث عن الحروب االتي خاضتها الدول العربية ضد إسرائيل، وقد وصف السياسة الإسرائيلية في المنطقة مستخدما مصطلح" القتل السياسي" الذي كان وما زال يهدف إلي إبادة الشعب الفلسطيني بطريقة ممنهجة ومستمرة. في الفصل الثاني تحدث الكاتبان عن العنف الأيديولوجي حيث يريان أن " العنف الإقليمي الذي تحدثنا عنه في الفصل الأول له علاقة جدلية بالعنف الأيديولوجي، ويتسم باستخدام خطاب وانتهاج سياسة واقعها هو إقصاء بل إنكار الآخر، وتتخذ هذه العملية أشكالا مختلفة، بدءا من منح صفة الأقلية لهذا الآخر، من أجل رصده للعنف الجسدي وانتهاء بالمضايقات التي تدفعه لمغادرة أرضه بعدما يصبح فيها غريبا". واستفاض الكاتبان في كشف خطاب الصهيونية والثنائيات القومية. في الفصل الثالث يتحدث الكاتبان عن الهويات القاتلة، تحدثا فيه عن الهويات الاثنية والعرقية والدينية في منطقة الشرق الأوسط، وكشفا التطهير العرقي الذي حدث في بعض البلدان العربية مثل القتل الجماعي المنظم للأرمن علي يد الدولة العثمانية أو تهجير السكان الذي قام به كمال أتاتورك بحق اليونانيين والمذابح الدامية التي ارتكبها الجيش التركي، كما قام العثمانيون بطرد الجريك الأرثوذكس، ثم المواجهة بينهم وبين الأكراد والمذابح الدامية التي ارتكبوها بحقهم. في الفصل الرابع تحدث الكاتبان عن الأنظمة السلطوية وما تمارسه من عنف ضد شعوبهم. تحدثا عن الممالك العربية وعصبياتهم التي نجحت في تكوين دول، والفكر القبائلي الذي يسيطر علي هذه الممالك، وكشف تكوين مملكة آل سعود، والمملكة الهاشمية، ثم تحدثا عن إمارات الخليج العربي، بعدها كشفا نشأة الجمهوريات العربية مثل: مصر والعراق وسورية وليبيا وغيرها من الجمهوريات العربية. وكشف الكاتبان عوار السلطة المطلقة التي ينالها الملوك والأمراء في الممالك أو الرؤساء والأحزاب في الجمهوريات، والاستبداد والقهر الذي يمارس علي هذه الشعوب. وغياب الأسس الديمقراطية والدساتير، وحتي الجمهوريات التي وضعت دساتير للحكم حولتها لمجرد نصوص صورية ليس لها تطبيق علي أرض الواقع. في الفصل الأخير تحدث الكاتبان عن القوة والاستراتيجية ضد القانون الدولي، وتحدثا فيه عن الأممالمتحدة ودورها المهمش، وحق الفيتو الذي يفشل أي دور لهذه المنظمة الأممية في الانتصار لقضايا العدل وحقوق الإنسان وخاصة فيما يخص القضية الفلسطينية والفيتو الأمريكي الذي يجهض حق شعب سلبت أرضه ومورس ضده كل صنوف القتل. وتوقفا طويلا أمام قرارات الأممالمتحدة بشأن فلسطين، وخاصة قراري 242 و 678 واتفاقيات جنيف وأوسلو. ثم تحدثا عن الولاياتالمتحدةوالعراق وما تم بحق العراق من حروب دامية وقتل وعنف وتقسيم. ثم تحدث الكاتبان عن اتفاقيات الأسلحة، حظر الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية. في الخاتمة تحدث الكاتبان عن ثورات الربيع العربي التي اقترن قيامها بالعنف، مع صعود تيارات الإسلام السياسي، ووصولها للحكم في عدد من بلدان ثورات الربيع العربي، ثم قيام تنظيم الدولة الإسلامية أو ما يعرف بتنظيم داعش وأخيرا النقلة النوعية في ممارسة العنف، واعتماده علي الأفراد غير المنظمين أو الذين لا يتبعون هذه الجماعات تنظيميا، لكنهم يتبعونهم فكريا وأيديولوجيا، مما يشكل خطرا أكبر علي الشعوب، ثم اتساع مجال العنف دوائره، ليصل إلي أوربا وأمريكا، ولعل ما حدث مؤخرا من أحداث دامية في فرنسا، في مسرح البتكلون، ثم في نيس، ومن بعدها في ميونخ ما يؤكد فكرة انخراط الأفراد في العنف حتي لو لم يكونوا منتمين تنظيميا إلي هذه الجماعات.يؤكد الكاتبان علي أن الهدف من الكتاب هو تسمية مواقف العنف للوصول إلي السلام، وأنهما يسعيان إلي تعزيز قيم المواطنة والديمقراطية لدي الشعوب التي تتعرض لكل هذا العنف.