خرج »محمد خان».. فارس المدينة من الدنيا التي عشقها وسخر منها كثيرا في نفس الوقت.. رحل صاحب الضحكة العالية والكلمة الساخرة والابتسامة الصافية التي كانت تضيء وجهه ولاتفارقه أبدا حتي في أحلك الظروف. رحل »الحريف».. حاملا معه »أحلام هند وكاميليا» وكل المصريين باختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الاجتماعية بمن فيهم »زوجة رجل مهم». في ساعة زمن غدار »خان» أصدقاءه ومحبيه ورحل في غفلة تاركا الجميع في حالة ذهول حتي إن الكثيرين لم يصدقوا ويستوعبوا الأمر في البداية معتقدين أنها إشاعة سخيفة. خرج خان من الدنيا تاركا حزنا دفينا.. وفراغا كبيرا في الساحة الفنية لدي جمهوره من عشاق السينما في مصر والعالم.. وفراقا إنسانيا أكبر لدي أصدقائه وأقربائه وكل من اقترب منه وعرفوه عن قرب. خرج »خان» ولن يعود.. تاركا بصمة حية في »دفتر أحوال» مصر التي عشقها ولم يعرف له وطنا غيرها.. كان مصريا حتي النخاع ورغم ذلك لم يحصل علي الجنسية المصرية إلا منذ سنوات قليلة.. وكانت البطاقة الورقية هي أجمل هدية حصل عليها وشيء أسعده كثيرا أن يكون مثبتا في الأوراق الرسمية أنه مصري.. في وقت يفتخر الكثيرون بحصولهم علي جنسيات أخري.
رحل »خان» حاملا هموم كل البشر الذين التقي بهم في الحياة وعبر عنهم بصدق في أفلامه.. وتجسدت في شخصيات أفلامه.. التي تؤرخ لمصر.. وتعتبر تشريحا للمجتمع المصري.. حيث كان حريصا علي اختيار أفكار موضوعاته بنفسه ومناقشة كل التفاصيل عند كتابة السيناريو. كان محمد خان منتميا إلي طبقة ثرية حيث كان والده الباكستاني الأصل تاجرا كبيرا ووالدته تتحدث سبع لغات أجادها هو أيضا.. لكن ظل حبه وارتباطه بلغة الضاد هو الأصل.. رفض الحياة في أنجلترا التي عاش بها فترة ليعود لمصره الحبيبة التي تشارك معه حبه للفن فهجر الهندسة التي كان قد بدأ في دراستها.
لقائي الأول »بخان» كان عام 1978 في مهرجان الإسكندرية السينمائي الأول وبداية عملي بالصحافة.. كانت الدورة الأولي للمهرجان.. والمشاركة الصحفية الأولي لي في المهرجان مع الناقدة الكبيرة الأستاذة إيريس نظمي مع أني وقتها كنت أعمل في قسم التحقيقات.. وكذلك كانت البداية الأولي لمحمد خان للمشاركة في المهرجان بفيلمه الأول »ضربة شمس» بطولة وإنتاج الراحل العظيم »نور الشريف».. وعندما علم أنني عائدة من »فرنسا» بعد قضاء فترة طويلة بباريس التي أعشقها وكنت أعد العدة للاستقرار هناك.. لولا إصرار أبي علي عودتي.. قال لي »ده أحسن قرار سوف تدركين أنك أخذته في حياتك». في فندق سان استيفانو القديم كان ذلك الشاب الخجول يرحب بالحوارات مع الشباب من الصحفيين واللقاء بهم في زمن كان يجود بعمالقة الصحافة الفنية وأسمائهم الكبيرة.
أما معرفتي الحقيقية به فتعود إلي أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات عندما حضرنا معا مهرجان »ستراسبورج» الدولي لأفلام حقوق الإنسان وكان معنا الإعلامي التليفزيوني القدير »يوسف شريف رزق الله» والناقد الكبير »صلاح هاشم» الذي كان له الفضل في تقديمي لهذا المهرجان وكنت يومها أصغرهم سنا ومكانة.. لكن ذوق يوسف شريف رزق الله واحتواء محمد خان ونصائحهما كانت دافعا قويا للنجاح والتفوق.. وكثيرا ما كان يلقبني (بالخواجاية السمراء) ويطلق ضحكته عاليا.
وكان آخر لقاءاتنا في دبي منذ ستة شهور تقريبا عندما كان يعرض فيلمه »قبل زحمة الصيف» وعندما اتصلت به قبل السفر لنجري حوارا ضحك قائلا: اكتبي اللي تحبيه عني .. واسأليني أي حاجة بس بلاش نتكلم عن الفيلم الجديد كتير علشان مرتبط بالحديث »بدبي» وفي دبي كانت لنا لقاءات يومية كان بشوشا ضاحكا رغم الألم الذي كان يعتريه بسبب سقوطه علي ظهره.. لكنه كان يتحامل علي نفسه سعيدا بوجوده وسط أصدقائه وفيلمه »قبل زحمة الصيف» والذي لم يلاق إعجاباً كبيراً من العديد من النقاد لكنه كان يقابل ذلك بابتسامة وضحكة قائلا: »ده حالة خاصة لمحمد خان».
والحقيقة أن محمد خان رغم الضحكة العالية.. والسخرية التي يري بها العديد من الأشياء كان شخصا خجولا وبسيطا للغاية.. وخجله الشديد هو الذي جعل البعض يقول عنه إنه مغرور. وبساطة محمد خان وطيبته هي التي دفعته للتعاطف مع الناس البسطاء مهتما بأدق التفاصيل.. وكان يقول إن السينما هي الحياة.. التي نعيشها لذا لا أريد استنساخ أشخاص من الخيال لا وجود لهم في الحياة. ف»أحلام هند وكاميليا» هي حكاية الخادمة صباح التي كانت تعمل لديهم وكان يحبها كثيرا بسبب حنانها ورعايتها له.. هذه الطبقة الفقيرة كان شديد التعاطف معها.. وفي »خرج ولم يعد» قدم حكاية أخري لإحدي الخادمات التي كانت تعمل لدي أقاربه.
إن أفلام محمد خان هي »دفتر لأحوال» مصرنا وانعكاسة حقيقية لكل الأحداث التي عاشتها مصر علي كل المستويات اجتماعية سياسية اقتصادية وبمعني أدق هي ترجمة »لواقع» بدون »فذلكة» في شكل صور إنسانية. وخان كان يكن تقديرا خاصا للممثلين لكنه أبدا لم يفكر عندما يبدأ في الكتابة أن تكون لشخص معين. كما كان يملك من الجرأة لتغيير اسم الممثل مهما كانت أهميته أو شهرته، في »أحلام هند وكاميليا» اختار في البداية فاتن حمامة وسعاد حسني لكنه قرر إعطاء الدور »لنجلاء فتحي» وإلهام شاهين.. مع خلاف في وجهات النظر مع »إلهام» أعطي الدور لوجه جديد هي »عايدة رياض» وربما الوحيد الذي كان مستثني من ذلك هو أحمد زكي.
الصداقة في حياة محمد خان تمثل مكانة كبيرة في قلبه وعقله وحياته.. ومن أقرب الأصدقاء القدير سعيد شيمي .. يوسف شريف رزق الله مع حفظ الألقاب ورؤوف توفيق.. وخيري بشارة. صداقته لحاكم »جزر المالديف» كانت السبب المباشر لعمل فيلم »يوسف وزينب» وهو الفيلم الوحيد الذي حمل جنسية هذه الجزر في ذلك الوقت وأسند البطولة لفاروق الفيشاوي أما باقي العاملين في الفيلم فكلهم من الجزر وكان ذلك بمثابة أكبر هدية منه وتقدير للصداقة.
في ذهني صورة لمحمد خان لن يستطيع الزمان أن يمحوها قبل »الإنترنت» و»الكمبيوتر» أثناء عودتنا من ستراسبورج وكان القطار يقطعها إلي باريس في أكثر من سبع ساعات ولتسلية الوقت كان محمد خان ويوسف شريف رزق الله يتسليان بتمضية الوقت في أسئلة سينمائية وذلك بطرح أسئلة سينمائية دقيقة لايمكن لأحد وأراهن علي ذلك أن يأخذ منها باله. ومن يومها وأنا أعتبرهما أنا وأبناء جيلي كلهم موسوعة سينمائية وكان هذا هو اللقب الذي ننادي به أ. يوسف ويومها أضفت أنا إليه محمد خان.