لم يكن ضوء الصباح قد أشرق بعد لكن سعيد استيقظ فجأة علي غير عادته.. غرس أصبعه في كتف زوجته بطريقة استفزازية ليوقظها.. أزاحت فاتن بطانية الشتاء الثقيلة من فوق جسدها ونظرت إليه مفزوعة، ولكن قبل أن تنطق بكلمة واحدة قال لها مباغتا: * لقد رأيت أبي في المنام الليلة للمرةالثانية، وكان في غاية الاستياء لأني لم أحقق له رغبته وأطلقك"! ظنت فاتن في البداية أن زوجها يمزح، أو أنه تحت تأثير كابوس أو حلم مزعج، لكن ما أن نظرت في عينيه حتي نهضت في حركة واحدة وأسندت ظهرها للحائط ولفت ذراعيها فوق بعضهما وانتظرت أن يكمل سعيد حديثه، فقد كانت تعرفه أكثر مما يعرفه أي إنسان آخر فوق الأرض.. حينما تتغير ملامح وجهه وتتقلب وتزوغ نظراته، في هذه الحالة التي يصبح فيها سعيد رجلا آخر سوف يصدر أحكاما مثل أحكام النقض لا رجعة فيها ولا طعنا عليها، ولا جدوي من نقاشه فيها أو محاولة عدوله عنها، إلا أنه في هذه المرة قررت أن تحاوره ولا تقف أمامه عاجزة، مقهورة، لا تملك إلا الدموع التي كانت سلاحها الوحيد في علاقتها بزوجها.. قررت أن تواجهه : هل قال لك أبوك لماذا يريدك أن تطلقني؟ سألته في المرتين، لكنه لم يرد وكان يتواري ويشيح بيده غاضبا ثم يختفي فأجد نفسي قد استيقظت من الحلم! صمتت فاتن برهة ثم عاودت الحوار: وأنت ألم تفكر في تلك الأسباب التي جعلت والدك يأتي من عالم الأموات ليخرب بيت ابنه! المؤكد أنه يعرف شيئا ما أو سرا لا يريد أن يصارحني به.. وأخشي أن أكون عاقا لأبي بعد موته! واضح أنك تميل لتحقيق رغبة والدك.. الله يرحمه! تعرفين كم أحبك ولكن تعلمين أيضا -كم كان حبي وارتباطي بأبي.. وتعلمين أكثر من هذا أنه هو الذي طلب مني في رؤية سابقة أن أحذرك من صديقتك منال وأنت نفسك اعترفتي أنه كان محقا في نصيحته، ولولا هذه النصيحة لكانت أطاحت بك من ترقيتك في العمل؟! إذن.. تريد أن تطلقني يا سعيد؟! أعطني مهلة يوما.. أو يومين علي الأكثر.. سوف أسأل مفسري الأحلام المشهورين ثم أتخذ قراري؟ جلس الزوجان علي حافة السرير في اتجاهين متعاكسين كلاهما يخفي عن الآخر دموعه! وطلع نهار بلا شمس علي فاتن.. ارتدي سعيد ملابسه وغادر المنزل دون أن يعلق بكلمة أخري، وبقيت هي حائرة، تفكر في أكثر من اتجاه.. هل زوجها مريض نفسيا؟! هل تظل يوما أو يومين تحت رحمته إن شاء طلقها وإن شاء أبقاها في عصمته؟ هل تترك مستقبل بيتها السعيد أو الذي كان سعيدا في يد مفسر الأحلام!؟ هل تباغت هي زوجها وتبادر بطلب الطلاق ربما يفيق من غفوته؟! هل تلوم نفسها لأنها هي التي ساعدت زوجها علي أن يكون أبوه ثالثهما داخل مملكتها التي تعشق كل ركن من أركانها، ألم تسمح له بتعليق صور أبيه علي جدران المملكة وكأنها متحف للموتي.. صورة في حجرة النوم وأخري في الاستقبال وثالثة في حجرة المكتب!.. ألم تشجعه علي أن يصطحبها في زيارات منتظمة لقبر أبيه.. بل كانت تصغي له دائما كلما طبق شعارات وأمثال أبيه وأقواله المأثورة كلما ناقشت أمور حياتهما.. ! شعرت فاتن بدوار.. لم تعد قادرة علي إجابة سؤال واحد بعد أن تشعبت أفكارها وتداخلت ودقت طبول الطلاق، وصارت المملكة مهددة بالانهيار أكثر من أي وقت مضي!.. لكنها فجأة قررت أن ترتدي ملابسها، وتنزل هي الأخري لتركب سيارتها وتتجه بأقصي سرعة إلي حي العجوزة! لحظات ووصلت فاتن إلي بيت أمها التي جاوزت السبعين عاما.. عنفت الأم ابنتها فلم تكن راضية عن هذا الزواج منذ اليوم الأول.. طلبت من فاتن أن تثأر لكرامتها وتلملم حاجياتها وتأتي بها من منزل الزوجية إلي بيت العائلة ، وحذرتها من أن تستمر في هذا المسلسل السخيف الذي قد ينتهي بفضيحة مدوية، فماذا ستفعل لو أتي سعيد برؤية جديدة تتهمها بالخيانة؟! تمر ساعات ثقيلة.. يتوغل الليل.. يعود سعيد إلي بيته فلا يجد فاتن.. تليفونها لا يرد .. دولابها خال.. حتي صورتها بجوار سريرها لم تعد موجودة.. طار إليها في بيت أمها.. بادرته بطلب الطلاق.. طمأنها إلي أن قلبه ارتاح لحل أخير، وأنه سوف ينتظر الرؤية الثالثة ولن يترك والده يمضي حتي يسأله عن أسباب رغبته في الطلاق!.. ثارت فاتن وصاحت في وجه سعيد لأول مرة تتهمه بالجنون.. حاول تهدئتها.. اقترحت عليه أن تذهب به إلي طبيب نفساني.. ثار هو وانصرف وهو يتمتم بكلمات أقرب إلي الشتائم! أقامت فاتن دعوي طلاق، ولم تتراجع عنها، حكت قصتها للمحكمة فلم ينكرها الزوج، بل أكد أنه ابن بار بوالده حيا وميتا!! .. وفي النهاية قضت المحكمة بتطليق فاتن باعتبار أن الرؤية في ا لمنام لا تحقق أحكاما شرعية.. وأرسلت فاتن إلي سعيد تنازلا عن جميع حقوقها الشرعية بعد ان سجلته في مصلحة الشهر العقاري! تقدم لفاتن عشرات العرسان رفضتهم واحد بعد الآخر.. تفرغت لعملها وهوايتها القديمة في رسم اللوحات الزيتية، لكنها كانت حريصة علي متابعة أخبار سعيد وهي في قمة الحزن، ساءت صحته، أصابه الاكتئاب.. اعتكف في بيته.. أوقف مشروعاته ثم أغلقها مثلما أغلق كل تليفوناته وباب شقته. ذات صباح استيقظت فاتن علي خبر لم يخطر لها علي بال.. مات سعيد.. دارت بها الدنيا.. تقدمت الصف الأول في جنازته.. وبينما حملوه الي القبر فوجئ الجميع بها ترتمي فوقه وتفيض دموعها فوق الكفن الابيض وهي تسأله في هيستريا : "" ليه سايبني لوحدي وانت عارف يا سعيد اني ماليش في الدنيا حد غيرك ؟؟؟؟ .. ابعدوها عن الجثمان بصعوبة .. وظلت تنادي سعيد ليرد عليها ونست ان الاموات لا يتكلمون ! وفي المساء فجر محاميه المفاجأة.. زار فاتن وسلمها وصية سعيد التي نقل فيها ثروته كاملة اليها ومن بينها بيت الزوجية؟! عادت فاتن إلي بيتها القديم وحيدة، حزينة بقدر الثروة التي آلت إليها.. وخلال شهور قليلة افتتحت مرسما جديدا ملحقا به معرضا للوحاتها.. وتفرغت لتقديم أول لوحة سوف تعرضها للجمهور.. لوحة رسمت فيها بعناية شديدة وجه حماها.. والد سعيد.. وأطلقت علي اللوحة اسم "الرؤية"! نالت اللوحة إعجاب الجمهور، لكن أحدا لم يعرف القصة الحقيقية وراء الصورة منذ الليلة التي بكي فيها الزوجان علي فراش الزوجية وحتي لحظة عرض اللوحة للجمهور! وكانت المفاجأة أن أميرا عربيا طلب شراء اللوحة بشيك مفتوح.. رغم أنه هو الآخر لم يكن يعلم قصة هذه اللوحة! وبعد ان مضي الامير العربي باللوحة وقبضت فاتن الثمن جلست تبكي في جانب من المرسم التي ضاعت منه قطعة غالية من اجمل ذكريات عمرها .. واكثرها حبا وألما !!