الليل له أهله.. وناسه.. وخصومه أيضا! رأفت كان من هؤلاء الذين ينتسبون إلي قبيلة الليل.. ويرتبطون به بصلات القربي.. ويعتبرونه مصدرا للإلهام والإبداع.. والدموع! وكان رأفت تستهويه علاقاته الجيدة مع أبناء الليل الذين يجمع بينهم السهر وإن اختلفت الأسباب، فهذاعاشق يعد ويحصي نجوم الليل ويبكي فراق المحبوبة.. وذاك عاشق حزين من فرط سعادته وخوفه من أن تبدد الأيام هذه السعادة يوما.. هذا مهموم يفكر كيف يقضي دينه.. وذاك ثري يبعثر أمواله ذات اليمين وذات اليسار.. هذا يتعبد طالبا المغفرة من خالقه.. وذاك يعربد طلبا للمتعة بوحي من شيطانه ولم يكن رأفت واحدا من هؤلاء أو هؤلاء بل كانت له أسبابه اخلاصه جدا في عشق الليل، أهمها "نكد" زوجته التي تستيقظ مع خيوط الفجر الأولي وتنام مع غروب الشمس بعد أن تحيل حياة كل من حولها إلي جحيم مستعر.. فهي جاهلة تتظاهر بالعلم.. تتحدث عن القيم وتفتقدها.. توحي للجميع أنها خاصمت الشارع من ع يون الرجال الزائغة ومطاردة المعجبين بها ولها.. وهي التي يهرب منها الرجال حتي يتخلصوا من الإحساس بسوء الطالع!.. تتدخل لفض المشكلات بين الجيران والأهل والأقارب فتزيد النار اشتعالا، ولا تترك المجلس إلا إذا وقعت كارثة! تتهم زوجها النحيف بالسمنة وتنسي أن تنظر إلي جسدها القريب من أشجار الجميز!.. نهارها مسرح كئيب ومشاكلها تصب في النهاية فوق رأس رأفت فتكلفه مهانة الاعتذار للناس!.. سنوات طويلة وهو يعيش في قلب الجحيم.. اتجه إلي المأذون أكثر من مرة ليطلق "فكرية".. كان يحلم بوثيقة طلاقها منه وكأنها وثيقة المغادرة من عاصمة النكد.. لكن رأفت كان يفشل في كل مرة فقد كانت زوجته تسبقه إلي مكتب المأذون فتجذبه بذراع أشبه بذراع "تايسون.. وتبكي بعيون التماسيح" وعيد ووعد.. تهديد وإغراء تضغط علي نقاط ضعفه.. وخوفه من الفضيحة وتستثمر قوة دموعها في كسب عطفه وشفقته.. وكان رأفت يتراجع ويعود مع فكرية إلي بيتهما.. فهي ابنة عمه وأم أطفاله وجزء من حياته.. حتي لو كان يمقت هذا الجزء.. فالإنسان أحيانا يفضل البقاء علي ساقه المريضة ويعز عليه أن يبترها! كان الحل المريح أن يعتبرها رأفت قدره! وتفرع من هذا الحل حلول أخري.. خاصم رأفت النهار وتركه بأكمله لزوجته بعد أن أحيل للمعاش وتخرج الأولاد في الجامعة وسافر الثلاثة للعمل بالخارج.. اعتاد رأفت النوم مع إشراقة الفجر والاستيقاظ مع غروب الشمس.. ليبدأ يومه في الثامنة مساء حينما يبدأ موعد الحب مع معشوقه الليل.. لا ينغص عليه ليلة سوي هذه الأصوات التي تنبعث من حجرة "فكرية" وهي نائمة تحلم بالعراك والمشاكل وخراب البيوت العامرة.. وإن كان رأفت يجد بعض الفكاهة في شفقته علي هؤلاء سيئي الحظ الذين تحلم بهم فكرية! ذات ليلة.. استيقظت فكرية علي غير عادتها في ؟؟؟ فجرا.. ذهبت إلي رأفت في حجرته فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم.. أبلغته أنها رأت في المنام.. خيرا.. وقاطعها رأفت في غضب يسألها؟ منذ متي أتي إليه.. الخير في المنام أو الواقع؟!.. ودون اكتراث بما قاله زوجها راحت تستطرد وتقترح علي زوجها أن يتري لها بمكافأة نهايةالخدمة مجوهرات تتزين بها لأنها ليست أقل من أختها فاتن التي أنعم عليها زوجها بست قطع من الذهب الخالص.. خاصة أنها شاهدت نفسها في المنام تجلس عليحافة منجم من الذهب.. ورد عليها رأفت بقرف مؤكدا أنها لو انتظرت حتي نهاية الحلم لوجدت نفسها تهوي إلي قاع المنجم فلا تعودين منه أبدا.. ضغطت فكرية بقوة علي زوجها فراح يصارحها بأنه سحب مكافأته من البنك واشتري بيتا قديما بالقاهرة الفاطمية، وأنه قرر هدم البيت وبناء بيت صغير علي طراز حديث يعيش فيه أولاده بعد عودتهم من الخارج حتي لا يبددوا النقود بعد وفاته.. ثارت فكرية.. وانقلب نكد النهار ليملأ ساعات الليل.. لكن رأفت ارتدي ملابسه وأقسم بأغلظ الأيمان ألا يبيت ليلته معها! أمام البيت قابله أحد عمال الهدم ليبلغه بخبر مثير.. قال له العامل انه عثر أثناء هدم البيت علي إناء كبير من الفخار ممتلئ بالقطع الذهبية القديمة.. طار رأفت من الفرحة.. أسرع إلي موقع البيت.. لمعت قطع الذهب في عينيه.. اتجه إلي قسم الشرطة.. النيابة.. أبلغوه الخبراء قرروا أن القطع الذهبية ينطبق عليها وصف الكنز وليست اثارا لأن عمرها لا يزيد علي مائة عام.. قرر أن يمنح مكافأة للعامل الذي عثر علي الكنز.. أهداه ألف جنيه.. لكن رأفت فوجئ بصاحب البيت الذي باعه له يطالبه بالكنز، لأنه الأحق به فقد اشتري البيت منذ ستين عاما والكنز بين جدرانه.. رفض رأفت بشدة وعاقب الرجل بأن تركه يفاوض فكرية.. ورغم براعة فكرية في فنون النكد.. إلا أن صاحب البيت لم ييأس.. أقام دعوي قضائية يطالب بالكنز.. وقدم رأفت للمحكمة عقد البيع الابتدائي الذي اشتري به البيت! عزيزي القارئ.. بماذا تحكم في هذه الدعوي لو كنت القاضي: الكنز من حق رأفت الكنز من حق صاحب البيت الأصلي إعادة الكنز إلي الخزانة العامة.