لا يصبح أي نص دستورا الا بعد الاستفتاء الشعبي عليه، وحصوله علي موافقة أغلبية خاصة. ودستور أي دولة وثيقة أساسية تحدد هوية المجتمع، ومعالمه الرئيسية ونظمه المختلفة، الاقتصادية والسياسية والقضائية والتنفيذية وغيرها. كما ينظم الحقوق والواجبات الاساسية لأفراد الشعب وجماعاته، وطريقة تعامل السلطات مع بعضها البعض، والعلاقات التي تربط بين قطاعات المجتمع، والمسائل العامة الأخري. وهذه قضايا وأمور لا تتغير كثيرا أو في وقت قصير، ومن ثم تتسم دساتير الدول بالثبات النسبي، ولا يدخل عليها تعديلات الا علي فترات متباعدة، وعندما تنشأ ضرورة ملحة لذلك. ومن هنا فإن صياغة الدستور تتم من منظور اجتماعي شامل يسعي الي تحقيق تماسك النسيج الاجتماعي والسلام والأمن القوميين. ولذلك يفترض ان تكون نظرة لجنة الصياغة شاملة وليست جزئية، موضوعية وليست متحيزة، عامة وليست طائفية او فئوية. واذا لم يتحقق ذلك فإن الدستور لن يحقق الآمال التي تصبو اليها الشعوب، ولن يحوز علي القبول العام، ولا يتوافر له استقرار أو رسوخ. لقد ارتكبنا في مصر الخطيئة الكبري في هذا المجال في اعقاب ثورة 52 يناير الباهرة، عندما أجرينا الانتخابات اولا ثم وضعنا الدستور بعد ذلك، مما أوجد بيئة مناوئة تسببت في أنقسام المجتمع ووجود نسبة معنوية رافضة لدستور 2102 علي الرغم من حصوله علي موافقة نحو 56٪ ممن ادلوا بأصواتهم في الاستفتاء. ومازلنا الي الآن ندير الدولة بالمغالبة وليس بالتوافق العام. وبدلا من ان نعدل المواد التي كان من المتفق علي تعديلها قبل الجيل الثاني للثورة في 03 يونيو 3102، ادخلنا تعديلات تفوق ذلك، بل تتعدي »شروط المهمة» التي حددها رئيس الجمهورية المؤقت. بحيث اصبح المشروع الجديد لدستور 3102 اكثر حجما وشبه جديد! وأشهد دعاية كبيرة للموافقة علي مشروع الدستور، وتهليلا من كثر باستقبال المشروع الجديد مع تسليمهم بأن هناك ملاحظات وتحفظات علي اجزاء منه وذلك قبل طباعته في الصورة النهائية. ويذكرني هذا بما كان عليه الوضع عند الانتهاء من صياغة دستور 2102، التي قالت بأنه يلبي «مطالب الشعب» و»يليق بمصر»، وانه لم يحدث قبل ذلك في بعض نصوصه. وهو ما قيل في حق الدستور المعطل، مع تحول المواقف السياسية بحيث تحول المعارضون السابقون الي مؤيدين، واصبحت الموالسة السابقة معارضة الآن. وفي ظل هذه الملابسات اخشي ان يستمر الصراع السياسي في المجتمع، بدلا من ان يسود فيه الوئام، والمصارعة بدلا من المصالحة. وفي هذا ضرر جسيم للمجتمع، وعدم استقرار للدستور، وهدر بالغ لموارد المجتمع، واضاعة للهدف الذي ننشده جميعا وهو الاستقرار مع العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة. ولا أقول ما سبق اعتراضا أو تأييدا للمشروع الحالي حيث ان هذا يحتاج الي معالجة منفصلة، وانما مساهمة في السعي نحو ايجاد البيئة الملائمة لإصدار دستور جديد يحوز علي القبول العام، وينأي به عن تكرار التعديل والتبديل، ويوفر للمجتمع نعيم الاستقرار والأمان وكي يتم هذا، فإن احد المتطلبات الاساسية هي أن يخضع مشروع الدستور -قبل الاستفتاء عليه- لمناقشات حرة واسعة ومناظرات متعددة حال الانتهاء من صياغته. ومثل ذلك يتم في البلاد المتحضرة علي موضوعات أقل جسامة من الدستور- مثل اضافة الفلورين الي مياه الشرب أم لا. ولا يتخذ القرار الا بعد قرع الرأي والرأي الآخر في حرية تامة وبدون تحيز. فمابالنا بما يجب ان يكون عليه الحوار قبل الاستفتاء علي الدستور؟ لذا.. اقترح افساح مدة كافية للمجتمع لمناقشة المشروع، واتاحة الفرصة لجميع الآراء المؤيدة والمعارضة بدون تبرم أو تحيز كي تدلي برأيها في الدستور، والتقدم بما قد يكون لديهم من مقترحات وهذا يتطلب: 1- عرض المشروع علي النقابات والجامعات ومنظمات المجتمع المدني لمناقشته وابداء ارائهم. 2- عقد المناظرات في المجالس المحلية وغيرها بين مؤيدين ومعارضين كي تبني الجماهير آراءها علي بينة. 3- أن يتم النظر بصبر وسعة أفق في حصيلة هذه المناقشات والحوارات، ثم اعادة صياغة المشروع في ضوئها وذلك قبل تحديد موعد الاستفتاء. وهذه الاجراءات لاينبغي أن تستغرق وقتا طويلا، بحيث نستطيع الالتزام بخارطة الطريق المعلنة. واذا استلزم الأمر التأخر في تنفيذها لمدة شهر مثلا، فلا بأس من ذلك نظرا لعظم المنافع المجتمعية التي تعود علينا من الدستور المنضبط وليس المتسرع. ان الادارة النزيهة والحكيمة للدولة تقتضي أن تكون النظرة الي الدستور موضوعية الي أبعد حد، وغير منحازة الا للمصلحة العامة للوطن، والا تتعجل الاستفتاء علي الدستور، وقديما قالوا «ان المنبت لاظهرا أبقي ولا ارضا قطع».