"يا ريت كنت ميت علشان ما شفش وشكم .. شباب تافه قليل الأدب.. مش كفاية الظلم والعذاب اللي احنا شايفينه من هيئة التأمينات والمعاشات.. الحكاية مش محتاجة مسخرة من شوية مخنثين زيكم" خرجت هذه الكلمات غاضبة مصحوبة بالمرارة من أحد ركاب المترو المسنين. تعليقا علي احتلال مجموعة من الشباب للمقاعد المخصصة لكبار السن. وتجاهلوا وجوده. رغم انه لا يقوي علي الوقوف علي قدميه. واستمروا في تبادل النكات السخيفة . والاستماع الي موسيقي راقصة يتمايلون معها "بمياصة" يميناً ويساراً. هذا المشهد. للأسف الشديد. كنت احد شهوده وهو يتكرر يوميا مئات المرات في عربات المترو. مما يدعو لاتخاذ اجراء من جانب القائمين علي ادارة المترو لتفعيل عبارة "مخصص لكبار السن" والتحذير من فرض غرامة علي الشباب الذين يشغلون هذه المقاعد في حال تواجد من يستحقونها. واذا عجزنا عن تفعيل هذه العبارة. في ضوء استهتار غالبية الشباب بالمسنين. وعدم إدراكهم انه سيأتي عليهم الزمن لا محالة وسيصبحون مسنين. وعندها سيعاملون بنفس المعاملة. ويحصلون علي ما قدموا. ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا. ونذكرهم بالحكمة القائلة: "افعل ما شئت كما تدين تدان" فانني اقترح ان تخصص الادارة عربة في كل مترو للمسنين والمعوقين أسوة بتخصيص عربات للنساء. وهذا الامر له أهميته ويدخل في اطار تكريم المسنين الذين قضوا زهرة شبابهم في خدمة بلدهم. لان تجاهلهم من قبل الشباب لايعني فقط تحملهم معاناة الوقوف. بل انها تحرك فيهم مسائل أخري ترتبط بعدم الوفاء. وتترسخ في آذانهم المقولة الخاطئة بانهم مثل "خيل الحكومة". والتي كان في السابق يتخلصون منها فور عجزها عن العمل. حرصت علي النزول مع هذا المسن من أجل تهدئته. وبمجرد اقترابي منه للحديث بادرني بالقول: "سيبني في حالي.. بلد مفيش فيها راجل يقدر يقول الحق.. لو كنت في شبابي وشاهدت إهانة هؤلاء الشباب لأحد المسنين لأشبعتهم ضربا حتي يظهر لهم صاحب" تحملت لوم الرجل بصبر. وأخذت بيده وأجلسته علي أحد المقاعد بالمحطة. فسالت الدموع الساخنة علي خديه. وقدم اعتذاره عن خشونة التعامل معي. وبدأ سرد مظالمه بدءا من حصوله علي معاش محدود لا يتناسب مع سنوات عطائه التي تجاوزت الاربعين عاما في احدي مؤسسات الدولة. مرورا بابتعاد الاصحاب والزملاء والجيران عنه لدرجة انه ينزل الي الشارع مضطرا حتي لا تقتله الوحدة بعد ان فارقته رفيقة دربه "زوجته". وتركه أولاده الأربعة "الذي رباهم أحسن تربية وعلمهم أحسن تعليم" علي حد قوله. ولكنهم انشغلوا بحياتهم وأبنائهم. وانصاعوا لرغبات زوجاتهم اللائي لا يخفن الله. وتركوني بمفردي في الشقة التي تربوا فيها أعاني الوحدة والمرض. واكتفوا بالاتصالات التليفونية. ولا يأتون لزيارتي الا في المناسبات. طيبت خاطر الرجل المسن. وتركته بعد ان طلب مني ان اكتب عن اهانة المسنين في بلدنا العزيز مصر. ذلك البلد التي كرمها الله بذكرها في قرآنه الكريم ثلاث مرات. فاذا بحكوماتها تتفنن في تعذيب المسنين. تصادف في اليوم التالي ان شاهدت مسنا يتجاوز عمره السبعين عاما يتسول عند احدي اشارات المرور فقفزت الي ذهني صورة مسن المترو. وتأكدت ان اهانة المسنين في مصرنا العزيزة أصبحت ظاهرة تحتاج الي أصحاب القلوب الرحيمة وأصحاب الاقلام الصادقة وأصحاب الضمائر الحية للالتفات اليها. وقبلها تحتاج الي مسئول وطني مخلص يخشي الله في عمله قبل ان يخشي العباد. وتتعاظم المشكلة في ضوء تزايد اعداد المسنين. حيث خلص تقرير لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء إلي أن نسبة المسنين في مصر بلغت حوالي 6% من إجمالي السكان في مصر وفقاً لنتائج تعداد 060.2 كما تشير نتائج التعداد العام للسكان خلال العقدين السابقين إلي أن عدد المسنين ارتفع من 2.7 مليون نسمة إلي 4.4 مليون نسمة ما بين عامي 1986 و.2006 فالاهتمام بالمسنين يعد من أبرز السمات التي تظهر تحضر المجتمعات واذا عجزت الحكومة عن اكرامهم. فانني ادعو رجال الاعمال الي استثمار بعض اموالهم في اكرام المسنين. مؤكدا انه استثمار مجز في الدنيا والآخرة . وقفة : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكي قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلي الله عليه و سلم - "مَا أَكْرَمَ شَابّى شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ" رواه الترمذي. [email protected]