نادي "فالداي الدولي للمناقشات".. هو اختراع روسي جديد.. يتناسب مع عصر العولمة والفضائيات والسماوات المفتوحة.. يمكن تشبيهه ب "طائرة استطلاع" أنتجتها المصانع الروسية لاستكشاف الأوضاع علي الأرض في أي منطقة من العالم.. طائرة مزودة بكاميرات وميكروفونات دقيقة.. تسجل كل شيء بالصوت والصورة. لسماع كل الآراء والإطلاع علي كل الأفكار.. يقودها طيارون مهرة يجيدون الاتصال بالآخرين والحوار معهم والاستماع إليهم.. تعود نشأة هذا النادي إلي عام 2004. عندما عقد مؤتمره الأول في مدينة "فيليكي نوفغورود" الروسية القريبة من بحيرة "فالداي" الخلابة.. كان عنوان المؤتمر "روسيا بين قرنين: آمال ووقائع". ونجح نجاحاً كبيراً جعله يحظي بتقدير عال من الأوساط الفكرية والإعلامية في روسيا.. فأطلقوا علي النادي اسم "فالداي" تيمناً بهذا النجاح.. كما قرروا الاستمرار في عقد المؤتمر مرة كل عام في أحد الأقاليم الروسية.. وأصبح من اللقاءات السنوية التقليدية التي تجمع كل عام بين المشاركين في النادي من النخبة المثقفة في روسيا والرئيس الروسي.. وقد ناقش علي مدي الأعوام الماضية القضايا التالية: "روسيا فسيفساء سياسية".. "الطاقة العالمية في القرن 21: دور ومكانة روسيا".. "روسيا علي تقاطع اختيار الطريق والبحث عن هوية".. "الثورة الجيوسياسية العالمية في بداية القرن ال 21 دور روسيا".. "روسيا والغرب: العودة إلي المستقبل".. "روسيا: التاريخ والتنمية المستقبلية". ثم تطور الأمر بعد ذلك وبدأ نادي "فالداي" ينظم مؤتمرات دولية يشترك فيها مفكرون وخبراء وسياسيون من دول مختلفة لطرح أفكارهم ورؤاهم حول القضايا الدولية التي تهم روسيا.. فنظم في الأردن علي شاطئ البحر الميت في الفترة من 20 إلي 22 ديسمبر عام 2009 المؤتمر الأول له عن الشرق الأوسط تحت عنوان: "الشرق الأوسط 2020 هل يمكن تحقيق حل شامل؟".. وقد شارك فيه نحو 70 خبيراً وسياسياً من مصر وروسيا والأردن وفلسطين ولبنان والسعودية وسوريا وتركيا وبريطانيا وفرنسا والولاياتالمتحدة وإسرائيل.. وكان من أبرز الشخصيات السياسية التي شاركت في أعمال هذا المؤتمر: يفغيني بريماكوف رئيس وزراء روسيا ووزير خارجيتها سابقاً. ونائب وزير الخارجية الروسي الكسندر سلطانوف. ورئيس الوزراء الفلسطيني السابق أحمد قريع. ومستشار الرئيس الفلسطيني نمر حماد.. كما نظم نادي "فالداي" هذا العام عدداً من المؤتمرات التي بحثت في علاقات روسيا مع كل من الصين. والولاياتالمتحدة. والاتحاد الأوروبي.. *** في هذا الإطار جاء انعقاد مؤتمر مالطا الذي كنت أحد المشاركين فيه. وعقد يومي 9 و10 ديسمبر الجاري تحت عنوان: "سيناريوهات ونماذج التسوية الشرق أوسطية".. كان يفغيني بريماكوف أيضاً هو أبرز السياسيين المشاركين في هذا المؤتمر.. أهمية مشاركته لا تأتي فقط من المناصب التي شغلها من قبل. سواء في زمن الاتحاد السوفيتي أو روسيا الاتحادية بعد ذلك.. والتي من بينها: أمين سر مجلس السوفييت الأعلي. وعضو المجلس الرئاسي ومجلس الأمن السوفيتي عامي 1989 و1990. ثم رئيس جهاز المخابرات السوفيتية عام 1991. ثم وزيراً لخارجية روسيا الاتحادية عام 1996. ثم رئيساً للوزراء بين عامي 1998 و..2001 لكن إلي جانب ذلك أن هذا الرجل يمتلك من التجربة ما يجعله من أكثر الزعماء الروس دراية بأوضاع الشرق الأوسط وطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي. فقد عاش في القاهرة 5 سنوات كمراسل لصحيفة "برافدا" السوفيتية من عام 1965 إلي عام ..1970 وهي الفترة التي وقع خلالها عدوان إسرائيل علي الدول العربية عام ..1967 فكان أحد شهود نتائج هذا العدوان علي المنطقة.. وكثيراً ما خاض مناقشات في القاهرة مع أبناء جيله من الصحفيين المصريين ذلك الوقت مثل: فيليب جلاب. وكامل زهيري. ولطفي الخولي. وعبدالستار الطويلة. ومحمد عودة.. *** افتتح يفغيني بريماكوف مؤتمر مالطا بكلمة قال فيها: "إن احتكار الولاياتالمتحدةالأمريكية لمهمة الوساطة. هو الذي أدي إلي الجمود الذي وصلت إليه عملية التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين".. دعا إلي ضرورة توسيع مجموعة الرباعية الدولية بضم الصين والهند وبعض دول الشرق الأوسط إليها. وتنشيط عمل المجموعة بتقديم خطة جديدة للتسوية وليس مجرد الاكتفاء بوضع "خارطة الطريق".. قال: "إن الخطة الجديدة للتسوية الشرق أوسطية يجب أن تطرح من قبل المجتمع الدولي. وتنفذ من قبل المجتمع الدولي كله".. مضيفاً: "طبعاً ليس الأمر سهلاً. ولكن عدم عمل أي شيء سيؤدي إلي فشل كل من يرغب في تحقيق الاستقرار بالشرق الأوسط".. ورأي أن "استمرار حالة الجمود السائدة الآن سيؤدي حتماً إلي تقوية دور إيران في المنطقة"..! وفي الجلسة الختامية للمؤتمر.. حذر بريماكوف من أن تأخر التسوية في الشرق الأوسط سيؤدي إلي مضاعفة مشاكل المنطقة.. وعلق علي اقتراح أحد المشاركين بإخراج الولاياتالمتحدة من عملية التسوية بأن "ذلك لن ينقذ شيئاً".. أضاف: "لكن هذا لا يعني أننا موافقون علي أن تحتكر الولاياتالمتحدة دور الوساطة".. قال: "إن الرئيس الأمريكي أوباما بدأ بموقف من قضية الشرق الأوسط. ثم غير هذا الموقف تغييراً جذرياً.. وهو الآن في مأزق ويبحث لنفسه عن مخرج.. لذلك فإن تنشيط دور الرباعية الدولية سيكون أمراً جيداً له".. أضاف: "أنا بلا شك مع تفعيل دور روسيا في الشرق الأوسط.. لكن لابد من وضع بعض النقاط علي الحروف.. وهي: 1 أن الرهان علي مقدرة روسيا علي التأثير القوي علي إسرائيل من خلال اليهود الروس الذين يعيشون فيها. هو مجرد "أمنية".. صحيح أن اليهود الروس مازالوا مرتبطين ثقافياً وروحياً بروسيا.. لكن لا اعتقد علي سبيل المثال أنه يمكننا تغيير موقف وزير خارجية إسرائيل افيجدور ليبرمان الذي يتحدث الروسية بطلاقة وهو أصلاً من مولدافيا!.. إنه يستطيع أن يتحدث معك عن "تشيخوف" و"دوستويفسكي" أدباء روس عاشوا في القرن ال ..19 لكن عندما نطلب منه أن يتخذ موقفاً سليماً في عملية التسوية. فأنا شخصياً أشك في أنه سيوافق.. هذا احتمال ضعيف جداً!.. لماذا أقول هذا الكلام؟.. أقوله لأنني أتذكر عندما كنت أعمل في القاهرة. ووقعت حرب ..1967 استطاعت إسرائيل أن تدمر جميع المطارات المصرية بضربة واحدة.. فكان الناس في مصر يتساءلون: أين الروس؟.. إن الطيارين الأمريكيين يقصفوننا والطيارون الروس غير موجودين!!.. طبعاً هذا الكلام خطير. لأنه لا يمكن الرهان علي روسيا بما هو أكبر مما يجب عليها أن تفعله.. 2 إن الرهان علي روسيا كبديل للولايات المتحدة في احتكار الوساطة في عملية التسوية.. هو طريق مسدود.. لأن روسيا تستطيع أن تشارك في الجهود المبذولة لتحقيق التسوية. لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً بمفردها حتي لو أرادت ذلك.. 3 إن الحل الأفضل هو تنشيط الرباعية الدولية.. لذا يجب استبعاد بعض الأمزجة الأنانية التي تبرز أحياناً.. دعونا نتحدث بصراحة ونعترف أن بعض الدول العربية والإسلامية تنتظر دائماً أن يأتي إليها طرف من الخارج ليحل مشاكلها.. طبعاً الطرف الخارجي يمكن أن يلعب دوراً مهماً. لكن ذلك لا يقلل من مسئولية الأطراف المباشرة في عملية التسوية. وهم الفلسطينيون والإسرائيليون..!! *** مازال للحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالي..