أحاول في هذه السلسلة من المقالات أن أنقل إلي القاريء وجهات نظر نخبة كبيرة من المثقفين من مختلف الدول بشأن أزمة الشرق الأوسط.. سياسيين ومفكرين وباحثين وخبراء حضروا من دول شتي في العالم الي مالطا ليجتمعوا في مؤتمر دولي تحت عنوان سيناريوهات ونماذج التسوية الشرق أوسطية. المؤتمر عقد يومي 9 و10 ديسمبر الجاري. وافتتحه يفغيني بريماكوف رئيس وزراء روسيا ووزير خارجيتها الأسبق ونظمته ثلاث جهات روسية هي: وكالة الأنباء الروسية الرسمية نوفوستي ومجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسي.. ومعهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية.. وأشرف علي إدارة أعمال المؤتمر المفكر الروسي المعروف د. فيتالي نؤومكين مدير معهد الاستشراق وهو مؤرخ كبير وخبير في العلوم السياسية والاسلامية ومستشرق معروف لدي كل المثقفين العرب..وقد تلقيت دعوة من الجهات الثلاثة المنظمة للمؤتمر لحضوره والمشاركة في أعماله.. فقدمت ورقة عمل باللغتين العربية والانجليزية تم ضمها الي وثائق المؤتمر.. كما شاركت في المناقشات بمداخلتين مدة كل منهما حوالي 10 دقائق..لكن قبل أن أتطرق الي المناقشات التي دارت في المؤتمر.. لابد أن أتوقف أولا عند الجهات المنظمة له وأسجل عدداً من الملاحظات: 1- ان الجهات الثلاث التي اشتركت في تنظيم المؤتمر هي جميعها جهات روسية.. والجهة التي قامت بتمويله هي الوكالة الفيدرالية للصحافة والاعلام الروسية.. والجهة التي قامت برعايته هي منتدي فالداي الدولي للنقاشات وهو مؤسسة ثقافية روسية ظهرت عام 2004 ونجحت في عقد عدد من المؤتمرات الدولية الهامة التي تناولت الشأن الروسي في الداخل والخارج.. بالإضافة الي اللقاءات السنوية التي تعقدها بانتظام وتجمع فيها بين النخبة المثقفة في روسيا والرئيس الروسي. هذا يعني ان الروس بدأوا العودة من جديد إلي الشرق الأوسط. ہ ہ ہ هذه العودة أحسبها بمثابة طاقة ضوء ظهرت في نفق مظلم يسير فيه العرب منذ 19 عاما اسمه عملية السلام التي انطلقت من مؤتمر مدريد عام .1991 كانت مقررات المؤتمر تقضي بأن يشترك كل من الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدةالأمريكية في رعاية عملية السلام بالشرق الأوسط.. لكن بعد 50 يوما فقط من مؤتمر مدريد تفكك الاتحاد السوفيتي يوم 21 ديسمبر 1991 وأصبحت الولاياتالمتحدة هي القوة العظمي الوحيدة في العالم فانفردت وحدها برعاية عملية السلام.. لأن روسيا في ذلك الوقت كانت غارقة في مشاكلها الداخلية التي دفعت بها الي دوامة من الأزمات الاقتصادية الحادة وبالتالي لم تكن عملية السلام ولا الوضع في الشرق الأوسط ضمن أولوياتها.. هكذا خلت ساحة الشرق الأوسط للاعب الأمريكي وحده.. فحول عملية السلام الي نفق مظلم طويل ليس له نهاية.. وفي ظلمة النفق أخذ يتلاعب بالعرب.. مرة الي الأمام.. مرة الي الخلف.. وهو الآن يقف بهم في نقطة الصفر.. والظلام الدامس يلف بهم..! لذلك.. فإن عودة اللاعب الروسي الي ساحة الشرق الأوسط بهذه الفاعلية من شأنها أن تساعد في قشع الظلمة التي تغرق فيها عملية السلام الآن.. من شأنها أن تعطينا الأمل في امكانية الخروج من النفق المظلم الذي نسير فيه منذ 19 عاما خلف الأمريكيين..! لعل هذا ما حرصت أن أؤكد عليه في ورقة العمل التي قدمتها الي المؤتمر.. والتي قلت فيها: لابد أن أبدأ أولا بتوجيه الشكر الجزيل الي المؤسسات الروسية التي قامت بتنظيم هذا المؤتمر.. ان الشرق الأوسط بحاجة شديدة الي روسيا.. خاصة في هذا الوقت الذي تتدهور فيه الأوضاع بسرعة.. ان روسيا صديق قديم للعرب نجده دائما في وقت الشدة والأزمات.. وأحسب اننا بحاجة الي روسيا في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضي لكي تقوم بدورها كإحدي القوي الكبري والرئيسية في العالم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الشرق الأوسط. أكرر إننا بحاجة الآن الي الصديق الروسي.. ذلك لأن غيابه عن الشرق الأوسط في العقدين الماضيين كان أحد العوامل التي أدت الي تفاقم الوضع وتعقد الأزمة. ان تخلي روسيا عن القيام بدورها كراع لعملية السلام في الشرق الأوسط في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام عام 1991. وترك الولاياتالمتحدةالأمريكية للانفراد وحدها بهذا الدور.. كان السبب الرئيسي في فشل عملية السلام بالشرق الأوسط.. ذلك لأن الولاياتالمتحدة لم ترع عملية السلام. ولم تسع أبدا في أي يوم من الأيام الي حل القضية الفلسطينية.. بل علي العكس من ذلك قد حولتها الي مجرد كارت أو ورقة من أوراق اللعبة الانتخابية في الولاياتالمتحدة التي يلعبها الحزبان الديمقراطي والجمهوري لكسب تأييد اللوبي اليهودي في أمريكا..! إن الولاياتالمتحدة لم تكن في أي يوم راعيا لعملية السلام.. بل كانت تتعاون مع اسرائيل في تخريب عملية السلام. واستغلت تربعها في العقدين الماضيين علي الساحة الدولية باعتبارها القوة العظمي الوحيدة في العالم.. في تنحية وابعاد كل من يحاول أن يساعد في انقاذ عملية السلام بالشرق الأوسط. بدعوي ان "كثرة الطهاة تفسد الطعام" كما كانت تقول دائما مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة..! ان الطعام الذي طهاه الأمريكيون للعرب هو طعام فاسد.. لا يصلح.. ولن يأكله العرب..! نريد طعاما صحيا.. مصنوعا طبقا للمعايير الدولية السليمة.. وهذا النوع من الطعام. أثبتت التجربة علي مدي العقود الماضية ان الأمريكيين لا يرغبون في صنعه..! لذلك نحن في حاجة الي الأخوة الروس.. تعالوا الي الشرق الأوسط.. وشاركوا في صنع السلام.. اننا نثق فيكم. ان عملية السلام في الشرق الأوسط التي جئنا الي هنا للتحدث حول السيناريوهات المتوقعة لمستقبلها قد تم تخريبها.. ولعلكم تلاحظون ان الأوضاع تعود الآن بسرعة الي نقطة الصفر. ان النقاش حول انقاذ الوضع في الشرق الأوسط.. يتطلب منا أن نبدأ بطرح سؤال أساسي: في أي نظام دولي نريد لعالمنا أن يعيش..؟ نظام يقوم علي احترام الشرعية الدولية.. وتسود فيه مباديء القانون الدولي.. وتنفذ القرارات الدولية التي تعبر عن إرادة المجتمع الدولي. أم نظام يعطل فيه القانون.. ولا تنفذ القرارات الدولية.. وتستبدل فيه الشرعية الدولية بشريعة الغاب..؟ لقد صدر حتي الآن بشأن القضية الفلسطينية وأزمة الشرق الأوسط أكثر من 500 قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة. ونحو 40 قرارا من مجلس الأمن الدولي.. فضلا عن قرارات محكمة العدل الدولية.. كل هذه القرارات ترفض اسرائيل تنفيذها.. والولاياتالمتحدة تدعمها في ذلك.. هذا سوف يؤدي بالضرورة الي احلال شريعة الغاب محل الشرعية الدولية في الشرق الأوسط.. وهذا هو أسوأ السيناريوهات التي يمكن أن تحدث..! *** ومازال للحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالي.. [email protected]