هل أدلك علي فيلم سينمائي ليست فيه غلطة واحدة ولا حتي نصف غلطة؟.. انه فيلم أرض النفاق للأديب الراحل يوسف السباعي وإخراج المبدع الراحل فطين عبدالوهاب وبطولة عباقرة.. كلهم عباقرة.. فؤاد المهندس وعبدالرحيم الزرقاني وسميحة أيوب وشويكار وحسن مصطفي وعبدالعظيم عبدالحق.. حتي الكومبارس كانوا عباقرة وحتي المشهد الوحيد للراحلة ناهد سمير وهي تولول علي زوجها الراحل عويجة أفندي ثم تشرب حبوب الصراحة فتلعنه "مطرح ما راح". الفيلم عمره يقترب من خمسين عاماً ولست أدري كيف أجازته الرقابة وقتها.. فهو شهادة إدانة لمجتمع بأكمله من قمته إلي قاعه.. وهو فيلم يصلح لألف سنة قادمة.. يصلح للمشاهدة حتي قيام الساعة.. فلا شيء تغير ومازالت الأرض صالحة لزراعة أشجار النفاق.. نفس المفردات ونفس السلوك ونفس الصعود الصاروخي للمنافقين والمداهنين وماسحي الجوخ ولاعقي الأحذية.. انه فيلم تعجز عن تصنيفه.. هل هو كوميدي أم سياسي أم اجتماعي أم رومانسي أم واقعي.. هو كل ذلك في بعضه.. فيلم يضحكني ويبكيني في آن معاً.. يحبطني ويدعوني للأمل في ذات الوقت.. يفرغني من همومي ويشحنني بهموم جديدة في نفس اللحظة.. وكلما وجدتني داخلاً علي "دور اكتئاب" وقرف ويأس.. أدير هذا الفيلم.. فهو باختصار "يفش غلي".. وأي كتاب أو فيلم أو قصيدة أو مقال يفش غلك لابد أن يكون غاية في الإبداع والعبقرية.. ليس المبدع من يضحكك أو يبكيك أو يعطيك معلومة أو فكرة أو يقف منك موقف الخطيب الواعظ والمحلل العليم ببواطن الأمور.. ولكن المبدع الحق من يستطيع أن "يفش غلك".. الأوضاع كلها يا أصدقائي أحمد مصطفي سعيد من قنا وعبدالشافي مصطفي و"فتاة صعيدية" خلقت لدينا ميولاً ونزعات عدوانية وكبتاً فكرياً وجنسياً وعاطفياً ووطنياً وقومياً.. مع عجز وقلة حيلة وغرق حتي منبت الشعر في الحيرة.. لذلك يسعدنا من "يفش غلنا".. من يقول ما نعجز عن قوله أو نخاف قوله.. يسعدنا جداً من يكيل الطعنات للمجتمع ومن ينزع عنه ثيابه وأقنعته ليرينا سوءاته.. لذلك نلتف حول من يسب ويلعن ويطعن ويتف ولو كان كاذباً أو مبالغاً أو متجنياً ونكره حتي الموت من يؤيد ويشكر ويهتف ويوافق ولو كان صادقاً وموضوعياً.. لذلك نريد جنازة لا نشبع فيها لطماً لأن الأوضاع ملأتنا عدواناً وقرفاً وإحباطاً وغضباً فرحنا نبحث عمن "يفش غلنا". هذا الإقبال الرهيب علي التخريب والتدمير والقتل والاغتصاب والخطف والسرقة والتلويث والقبح ليس سوي مجرد محاولات "لفش الغل".. كل تصرفاتنا الآن محاولة "لفش الغل".. حتي مجالس النميمة والمؤامرات و"الزنب".. و"المهاميز" ومهرجانات النفاق والكذب كلها وسائل "لفش الغل".. ومع كل ذلك لا شيء يفش غلنا تماماً.. فسرعان ما نمتليء هموماً مرة أخري بعد كل "فشة غل".. والأحداث التي تشحننا غلاً وعدواناً وقرفاً وهماً أضعاف أضعاف محاولاتنا للتفريغ وفش الغل. وصلنا إلي مرحلة الشعور باللذة والمتعة والشبق ونحن نخرب وندمر ونحطم ونفسد في الأرض والفضاء.. ونحن ننافق ونداهن ونكذب وندس ونتآمر ونزور ونزيف.. لأن كل ذلك الفساد "يفش غلنا".. ولا توجد متعة في الدنيا أحلي ولا أجمل من "فش الغل" ولو أدي فش الغل هذا إلي السجن والإعدام.. لا أحد يستطيع أن يصبر علي الغل وشحنات العدوان والغيظ والغضب في نفسه.. يشعر بامتلاء وتخمة ويحس بأن نفسه ستنفجر لو لم يتقيأ غله وعدوانه وغيظه ولو أدي هذه التقيؤ إلي تلويث الدنيا كلها من حوله. وكل هذا القبح الذي نمارسه باستمتاع وتلذذ.. كل هذا الفساد الذي نؤديه بإخلاص ودأب ومثابرة ليس سوي قئ الغل "وترجيع الهم الأزلي".. واستفراغ الغضب والغيظ والعدوان.. وهو قئ وترجيع غير مجرم ومسموح به لأننا نتقيأ علي بعضنا ونلوث بعضنا بالترجيع ونفش غلنا في بعضنا.. ونحن لا نتقيأ إلي فوق.. ولكن المرء منا عندما يداهمه القيء والترجيع ينحني إلي أسفل ليتقيأ علي من دونه.. نحن نمارس الاستفراغ إلي "تحت".. لذلك لا يجرمنا أحد ولا يحاسبنا أحد لأن "اللي فوق" يأمنون استفراغنا ولن يطالهم.. بل هم يشجعون استفراغنا علي بعضنا ليأمنوا عواقب غضبنا. *** في كل الدول العربية ديمقراطية وحرية من نوع جديد.. بل هي ديكتاتورية من نوع متين لا يبلي أبداً ولا يصدأ ولا يسقط.. انها ديكتاتورية الجزرة.. فقد عرف العالم من قبل ديكتاتورية العصا.. الديكتاتورية ارتبطت دوماً بالعصا والسجن والسحل والعروسة والتعذيب وتكميم الأفواه.. لكنها ديكتاتورية ساقطة طال الزمن أو قصر.. أما ديكتاتورية الجزرة فهي لا تسقط أبداً ولا يشعر الناس بأنها ديكتاتورية القهر والإذلال.. إنها ديكتاتورية تجار المخدرات الذين يعطونك الجرعة تلو الجرعة مجاناً حتي تدمن.. وعندئذ تسقط تحت أقدامهم تتلوي وتلعق الأحذية طلباً للجرعة والشمة والحقنة.. وتدفع دم قلبك من أجلها.. عندئذ تحب تاجر المخدرات وتدين له بالولاء وهو يقتلك ببطء وصبر وتؤده.. وتكره من يسعي إلي علاجك وإفاقتك وإنقاذك.. وتهرب منه.. وربما تقتله إذا ألح في طلبك للعلاج. وهكذا أدمن الناس في أمتي الجزرة.. وألقوا بأنفسهم تحت أقدام من يملكون هذه الجزرة ويقتلون كل من يحاول أن يخلصهم من إدمان الجزر.. إنها الديكتاتورية التي تجعل الناس منزوعي الكرامة والعزة والأنفة والإباء من أجل جزرة.. وعندما تمرغت الكرامة في الوحل مقابل الجزرة كره الناس كل محاولات إيقاظهم وإفاقتهم وحثهم علي استرداد عزتهم.. وقاتلوا من أجل الحفاظ علي ديكتاتورية الجزرة.. ومالك الجزرة يأمر والناس ينفذون وهو لا يحتاج أبداً إلي العصا والقهر والإذلال وإهدار كرامة الناس.. فالناس لم تعد لديهم كرامة لتهدر ولا شرف لينتهك ولا عرض ليغتصب.. مدمنو الجزر يضحون بالزوج والولد والعرض والمال والشرف من أجل الجزرة.. فلا خوف منهم ولا حاجة إلي احترامهم وتقديرهم أو أن يحسب لهم أحد حسابا. ومالك الجزرة ليس في حاجة إلي اللعب علي "المتغطي".. ليس في حاجة إلي اللف والدوران والمناورة وهو يفسد ويزور ويزيف ويسرق.. لكنه يلعب علي المكشوف ولا تشعر لحظة بأنه "مكسوف".. فالناس يريدون الجزرة فقط ولا شيء غيرها.. الناس مدمنو جزر والمدمن لا يسأل عن مصدر الجزر وهل هو جزر مغشوش أو مسموم.. ولا يعنيه ما ضحي به من أجل الجزرة. كل ذلك يجعل ديكتاورية الجزرة بخير وبعافية لا يفكر أحد في اسقاطها أو التمرد عليها لأن المدمن لا يمكنه التمرد علي من بيده الجرعة.. بل هو يتمرد علي من بيده الدواء ويقتله.. لذلك يسقط المعالجون ولا يسقط ناشرو المرض.. يسقط الدواء ولا يسقط الفيروس. وديكتاتورية الجزرة تعتمد علي المبدأ القديم الذي ينسب إلي سيف بن ذي يزن علي ما أظن وهو "أجع كلبك يتبعك".. لكن المبدأ حدث له بعض التطوير والتحسين.. فقد أدرك أصحاب نظرية ديكتاتورية الجزرة أن السيد إذا بالغ في إجاعة كلبه فإنه قد يأكله ولا يتبعه.. وقال بعضهم: "أجع كلبك يأكلك".. لذلك لجأوا إلي ديكتاتورية الإدمان.. فكلبك المدمن.. مدمن الجزرة أو الشمة أو الحقنة أو الفتات سيظل يتبعك إلي ما لا نهاية.. فقد نزعت إرادته وكرامته وعزته.. لذلك يظل يتمرغ تحت قدميك حتي إذا لم تعطه الجزرة.. سيقبل أي عرض تعرضه عليه ليحصل علي نصف جزرة.. لن تكون له شروط أو تحفظات.. يشرق إذا وجهته للشرق ويغرب إذا وجهته للغرب.. ويبلطج إذا وظفته بلطجياً.. ويهتف إذا وظفته هتيفاً.. ويخرب ويزور ويزيف إذا وظفته في ذلك.. جزرته وكرامته وشرفه في يدك وتحت أمرك.. فكيف له أن يشترط أو يتحفظ أو يفاصل؟ وأني له أن يرفض أو يتململ " أو يفلفص"؟ *** وكلبك الذي جعلته مدمن جزر وعظام مضمون مأمون لست في حاجة إلي عصا أو سلاح أو جنود أو حراسات لتحميك منه.. بل هو الذي يتولي حمايتك وحراستك لأن المدمن أفضل من يحافظ علي حياة تاجر المخدرات.. فهو يعلم أن موت تاجر المخدرات يعني موته وحرمانه من الجرعة والجزرة حتي الموت.. وهكذا فإن ديكتاتورية الادمان غير مكلفة ولا تحتاج إلي مصاريف كثيرة.. فالمقهور هو الذي يحافظ عليها.. والمظلوم هو الذي يدافع عنها والمسحوق هو الذي يسحق من يسعي إلي تخليصه منها.. وديكتاتورية الجزرة والادمان تسمح للكلاب "بالنبح" بعد أن نزعت أسنانها وكرامتها وعزتها.. الكلاب في ديكتاتورية الجزر والمخدرات تنبح ولا تعض.. وتتقيأ إلي تحت لا إلي فوق.. وتستفرغ همها علي بعضها لا إلي فوق.. المجنون فقط هو الذي يتقيأ إلي فوق ويتف إلي فوق لأن استفراغه وتفه سيعودان إليه وينزلان علي وجهه.. الناس في ديكتاتورية الجزرة والمخدرات يستفرغون ويتفون ويتبولون علي روحهم ولا يصيبون الظالمين والفاسدين وتجار المخدرات والجزر.. هؤلاء التجار ارتفعوا إلي أعلي قمة فلا يطالهم التف والقيء.. هم في مأمن منا.. وكل هذا الذي يجري من نباح وتف واستفراغ وتبول يحدث "تحت".. يقع بيننا نحن.. حيث نمارس "فش الغل" في بعضنا.. "نغسل شراع" بعضنا علي رأي إخواننا في الخليج. كل هذا الذي تراه يبرق ويلمع من حولك ليس ذهبا أيها المدمن الذي ضحي بكرامته من أجل جزرة.. كل شيء من حولك مزيف وزجاجي وقابل للكسر في ظل ديكتاتورية الجزرة التي يمارسها العرب.. الصناديق زجاجية والعيون زجاجية والانتخابات زجاجية والاقتصاد والثقافة والسياسة والرياضة والفن والهيصة والزمبليطة في الصحف والأرض والفضاء.. والطوفان الفضائي وطفح المجاري بآلاف الصحف.. والبرلمانات.. كل ذلك أيها المدمن كيان هش وزجاجي لكنه يبدو للمدمن المؤمن بالوهم ذهباً وكياناً صلباً حقيقياً.. انه سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتي إذا جاءه لم يجده شيئا. المدمنون الذين تراهم يولولون ويصرخون ويحللون ويعلقون عبر الأرض والفضاء والصحف يتفون ويتبولون ويتقيأون علي بعضهم.. انه "فش الغل" مع العجز وقلة الحيلة مثل زوجة يضربها زوجها ويمسح بكرامتها الأرض وتعجز عن رده فتفش غلها في نفسها.. تبيع نفسها لعشيق.. أو تدعو علي نفسها وتقول.. "يارب خدني بقي علشان استريح".. ولا تكمل وتقول: "علشان استريح من الراجل ده".. تخشي حتي الجهر بأنها تريد أن تستريح منه.. وربما تفتح الدولاب وتظل تعض وتضرب في ملابسه حتي تقتلها.. وربما تنهال ضرباً علي الأولاد.. أو تتحجج بهم في قبولها للمهانة والظلم.. وكذلك يفعل الزوج الذي تزوج امرأة "مستقوية" تضربه بالشبشب.. المظلوم العاجز الذي أدمن الجزر يفش غله فيمن دونه أو يفش غله بما نراه حولنا من العنف والتطرف والبلطجة والتزييف وبيع الأصوات والفجور في ممارسة الفساد والرذائل والبجاحة في الخيانة والتفريط وبيع الأمة والأوطان.. والمجاهرة بالمعاصي والخطايا بل والزهو بالتلفيق والجرائم النكراء.. وفي السباق المحموم بيننا علي خطف القوالب من بيت أبينا المنهار. *** لقد ساهم زميلي وصديقي حزين عمر في فش بعض غلي بكتابه "النكتة وأخواتها".. وفشت غلي أكثر جملته البليغة التي معناها أننا نضحك مع بعضنا أو نضحك علي بعضنا.. المهم أن نضحك وأظن أن الضحك مع بعضنا قد اختفي الآن تماما.. وصار الضحك علي بعضنا هو سيد المشهد لأن الضحك علي بعضنا جزء من فش الغل.. أو بعض الغل لأن غلنا أكبر من أن تفشه كل الوسائل القذرة التي نلجأ إليها.. ومن مظاهر فش الغل أن نشمت في بعضنا وأن نتفرج علي "خناقة" يمزق طرف فيها الآخر ولا نتدخل.. ومن مظاهر فش غلنا أن نحافظ علي الفساد والبلطجة والتزييف والغش وأن نقاوم الاصلاح والتغيير إلي الأفضل.. المدمن يكره العلاج ويقاوم التقويم والاصلاح.. المدمن يخاف الحرامي ويحترمه ولا يخاف العسكري ولا يحترمه.. المدمن يعطيك توكيلا عاما لتزييف إرادته وإهدار كرامته مقابل أن تعده بجزرة دون أن تفي بوعدك.. المدمن يعطيك شرفه مقابل وعد مكذوب.. المدمن يجعل تاجر المخدرات في مأمن من العقاب.. ويجعله يجاهر بجرائمه ويلعب ألعابا قذرة علي المكشوف ولا يشعر بالكسوف.. وهكذا تظل اللعبة القذرة مستمرة.. ودور الشطرنج بلا نهاية.. واللاعب يغش والملك لا يكش والغل لايفش!!! نظرة في أمتنا العربية "السؤال حُرُم".. وأهل الفساد لايُسألون عما يفعلون.. ولأننا مدمنوهم ومؤمنون بهم فإننا نري أن سؤالنا لهم حرام.. وأننا ينبغي ألا نسأل عن أشياء أن تبد لنا تسؤنا.. وهم يجيبون علي ما لم نسأل عنه ولا يجيبون علي ما سألنا.. والمدمنون لا يسألون لأن السؤال في أمتنا "حُرُم".. السؤال حُرُم في أمة شُرُم بُرُم سكينة قالت لريا : مين عليه الدور؟ وقف الكلام المباح يا شهر زاد في الزور رفض المدرس سؤال تلميذ عن الثورة الثورة يا بني مؤنث .. والمذكر ثور عربي!!