عاش الحجاج أيام الحج النظيفة.. أيام ارتفعت فيها المباديء والقيم النبيلة.. أيام القرب من الله.. وقفوا علي عرفات.. ورفعوا أيديهم إلي الواحد الأحد.. يطلبون مغرفته.. ويرجون رحمته.. تجردوا من كل مباهج ومظاهر الحياة الفاسدة.. وكأنهم يغتسلون من ذنوبهم وخطاياهم.. عادوا كيوم ولدتهم أمهاتهم.. وقد غفر الله لهم.. ولكن وماذا بعد الحج؟ وماذا بعد أن يعود الحجاج إلي أعمالهم ومكاتبهم ومناصبهم؟ هل سينصلح حالهم.. أم يعودون.. كما كانوا؟! هل سوف يتخلص الحجاج من مساويء وسلوك منحرف نعاني منه الأمرين. هل سوف يمتنع الحاج العائد من الأراضي المقدسة.. عن قبول رشوة.. ويؤدي عمله بأمانة وإخلاص.. وأن يمتنع عن ممارسة أسلوب المراوغة وتعذيب صاحب المصلحة.. ويرفض إنهاء مصلحته.. حتي يحصل علي المعلوم "الرشوة" أو المقابل.. هل سوف ينهي الموظف "الحاج".. مصلحة المواطن.. بسهولة.. وبدون تعقيدات.. وبدون "فوت علينا بكره يا سيد".. وبعد بكره. كم عدد المسئولين الذين أدوا فريضة الحج هذا العام.. كم وزير أو رئيس مصلحة أو هيئة أو مؤسسة أو شركة.. هل سوف يتخلصون من عادة الظلم التي يمارسونها.. عمال علي بطال.. هل سوف ينصفون كل مظلوم عندهم.. ويمنحونه حقه.. هل سوف ينتهي عصر الكيل بمكيالين.. وثلاثة وأربعة.. وأن يتخلص كل مسئول من آفة التفرقة بين العاملين طبقاً لهواه.. ولمصلحته الشخصية.. وليس لصالح العمل وطبقاً لكفاءة العاملين.. وكفاءتهم وخبرتهم فقط.. وليس طبقاً لمن يجيد فن الانحناء والنفاق.. من حملة المباخر. هل سوف تتوقف المنح والعطايا والترقيات والمكافآت والحوافز بأرقام متميزة.. لأصحاب الدم الخفيف علي قلب المسئول.. بينما يحرم منها الأكثر جهداً.. وكفاءة.. وخبرة.. لأنهم يقولون الحقيقة.. ودمهم تقيل علي قلب المسئول. هل سوف يرفض المسئول العائد من الحج.. استغلال النفوذ.. ويكتفي بسيارة واحدة فقط.. من مصلحته أو مؤسسته أو وزارته أو هيئته.. ويعيد باقي السيارات المخصصة له.. ولأسرته. ولا أعرف سبباً عن تخصيص أكثر من سيارة لكل مسئول في مصر.. ما هي الحكمة من ذلك؟ ولماذا تتعمد كل وزارة أو هيئة أو مؤسسة أو مصلحة حكومية.. ذلك؟ ولماذا يصمت الجهاز المركزي للمحاسبات عن هذه المخالفة؟ في كثير إن لم يكن كل الهيئات والوزارات والمصالح.. يتفنن المسئول عن الجراج.. في تخصيص عدد من السيارات الجديدة.. إلي المسئول.. ويجعلها تحت أمره.. لدرجة تخصيص سيارة لضيوف هذا المسئول.. وطبعاً سيارة للبيت.. وأخري للأنجال وثالثة لطلبات البيت.. وأخري لتوصيل الأولاد للمدرسة.. وللدروس الخصوصية. لا يوجد مسئول يكتفي بسيارة واحدة.. إلا نادراً.. ونادراً جداً.. المهم انك تسمع من هذا المسئول أعظم كلام عن الترشيد.. وهو لا يعلم أن جميع العاملين لا يصدقونه.. لأنه أول من يستغل نفوذه.. بإهدار المال العام.. باستخدامه أكثر من سيارة له ولأسرته.. فهل نسمع أن الحاج المسئول.. سوف يرفض استخدام كل هذه السيارات.. ويكتفي بواحدة! ليست السيارات وحدها.. التي يستغلها المسئول.. إنما أشياء أخري كثيرة.. قد تمتد لباقي أسرته وأقاربه.. والأصدقاء. هل يعود الحاج أكثر تسامحاً.. ويمد يده للجميع.. متناسياً الإساءة.. ومرتفعاً فوق أي خلاف.. خاصة مع أقرب الناس إليه.. طمعاً في رحمة ومغفرة وتسامح ربه.. هل يعود الحاج وقد تغيرت بداخله مفاهيم كثيرة.. هل يفتح صفحة جديدة.. لا تعرف الحقد والغل ونكران الجميل.. والتطلع إلي ما في أيدي غيره.. هل يتخلص الحاج.. من الذنب.. والإساءة للآخرين.. والنيل منهم بدون وجه حق.. هل يذهب الحاج فور عودته.. إلي شقيقه الذي يتصارع معه.. ويقاطعه منذ فترات طويلة بسبب الميراث.. أو غيره.. هل يذهب إلي أقاربه. ويصل رحمههم.. بعد انقطاع طويل.. هل يعيد الحقوق التي اغتصبها إلي أصحابها.. هل يتخلص من عادة التزويغ من عمله كل يوم.. ويعطي العمل حقه.. ويجوده.. هل يتقن العامل صنعته.. ولا يخدع ولا يغش في مهنته. هل يوقف الحاج العائد من عند الله.. الغش في الأدوية؟ كم عدد العاملين الكبار في مصانع وشركات الدواء.. أدوا فريضة الحج هذا العام؟ هل يمتنعون عن الإقلال من وضع المادة الفعَّالة في الدواء.. ويضعونها طبقاً للمعايير المطلوبة.. وهل يمتنع أصحاب الصيدليات عن بيع مثل هذه الأدوية وغيرها. كم تاجر ذهب هذا العام للحج؟ هل يمتنعون عن رفع أسعار سلعهم وتجارتهم بهذه الصورة التي تلتهم كل ما في جيوب الناس.. هل تتوقف ظاهرة نار الأسعار.. بعد حجهم.. ويكتفون بالمكسب المعقول!! ويخفضون الأسعار.. للحد المعقول.. وليس المجنون؟ كما عدد الحجاج الذين يعملون في المنافذ والجمارك والضرائب.. هذا العام هل سوف يمنعون دخول الأغذية واللحوم والأسماك والسلع الفاسدة والمصابة والمنتهية الصلاحية البلاد.. هل سوف يتذكرون وقوفهم علي عرفات.. ودعواتهم إلي الله.. وتستيقظ ضمائرهم.. بعد عودتهم.. ويرفضون تمرير هذه السلع.. بدون أي مقابل.. سوي المحافظة علي حجتهم!! هل يمتنع أصحاب المطاعم عن تقديم مأكولات فاسدة.. وهم يعلمون انها غير صالحة.. بعد حجتهم!! ما قيمة الحج إذا لم يغيِّر الناس.. وأن يعودوا أفضل مما ذهبوا.. نعم يتغير الإنسان.. إذا كانت لديه الإرادة.. والعزيمة.. وبداخله إصرار.. إذا كان يطمع في التقرب الحقيقي إلي الله.. إذا كان قد ذهب لأداء الحج بإخلاص.. لا يبغي سوي وجه الله.. إذا شعر بأن هناك نوراً مس قلبه وهو علي عرفات.. أو ملاصق لبيت الله "أول بيت لله وضع علي الأرض" الكعبة المشرفة.. انه الإخلاص بين العبد وربه. وحتي لا تنطبق علي الحجاج مقولة عبدالله بن عمر بن الخطاب.. عندما قالوا له إن الحج كثير هذا العام.. فقال.. لا قولوا: إن الركب كثير.. ولكن الحج قليل. إذا تغير سلوك الناس بعد الحج.. وانطبقت عباداتهم علي سلوكهم.. فإننا سوف نتخلص من أشياء سيئة ومشينة.. عانينا منها كثيراً.. فهل ينصلح سلوك الحجاج.. هذا ما سوف تكشفه الأيام القادمة.