مصطفي محمود دخلت أوروبا دوامة من الفوضي والأزمات الجذرية مؤخرًا. من انهيار سياسي في بريطانيا. وبوادر حرب تجارية محتملة مع الولاياتالمتحدة. وموجة مهاجرين غير مسبوقة. وعلي الرغم من كثرة الاجتماعات التي يجريها زعماء أوروبا. بات عليهم اتخاذ قرارات حاسمة سريعا وإلا فقد يفوتهم الوقت. وفيما كان عام 2018 شهد حالة من الارتباك في أوروبا فسيكون 2019 عام اتخاذ القرارات بل إن الفيصل هو النتائج التي قد يحققها الاتحاد وليس القرارات التي يتخذها الزعماء الأوروبيون في عشرات القمم واللقاءات التي يعقدونها فعلي سبيل المثال واجه الاتحاد الأوروبي في السنوات العشر الأخيرة أزمتين كبيرتين. لكن الاتحاد تجاوزها بفضل تضافر الجهود والعمل المشترك. الأزمة الأولي ضربت اليورو وهددت بالقضاء علي العملة الموحدة بعد موجات اقتصادية عنيفة اجتاحت دول منطقة اليورو. لكن سرعان ما بدأت أوروبا التعافي بفضل تنسيق السياسة الاقتصادية. لم يلبث أن استعاد الاتحاد ثقة شعوب أوروبا بعد أزمة اليورو حتي تعرض لأزمة أخري وهي مشكلة اللاجئين في عام 2015 والتي كشفت تباينًا كبيرًا في تطبيق الدول الأوروبية للقواعد العامة التي تنظم حركة الأفراد بسبب تفاوت تأثير موجة الهجرة علي الدول الأوروبية التي كانت من أشدها تأثرًا دول الجنوب بخاصة إيطاليا وأسبانيا وفرنسا إذ إنها المحطة الأولي التي يحط فيها المهاجرون بعد عبور البحر المتوسط. ظل عدد المهاجرين ينخفض كثيرًا مع تزايد وعي أوروبا بالصراع في منطقة الشرق الأوسط والاتجاهات الديمغرافية في أفريقيا وتأثيرهما علي الجوار الأوروبي. البركست البريطاني اليوم يجد الاتحاد البريطاني نفسه أمام تحد ثالث يتمثل في الانسحاب الوشيك للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بالعودة إلي الوراء سرعان ما اتفقت دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين علي خريطة الطريق "براتيسلافا" التي ترسم ملامح مستقبل المملكة المتحدة فور استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016. بعد ذلك بعام اجتمع زعماء أوروبا مرة أخري في تالين عاصمة جمهورية استونيا واعتمدوا جدول أعمال الزعماء لتوجيه مسار الأحداث في الاتحاد الأوروبي حتي إجراء انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة من 23 و26 مايو 2019 القادم. الآن لا يزال الاتحاد الأوروبي يخطط لعقد قمة أخري في مدينة سيبيو في رومانيا في 9 مايو لوضع اللمسات الأخيرة قبل الانتخابات. لا تزال بريطانيا في أزمة سياسية كاملة بعدما فشلت رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي في الحصول علي دعم البرلمان لاتفاق الخروج الذي تتفاوض عليه. علي عكس الأزمات السابقة فليس أمام زعماء أوروبا في هذه المرة سوي الانتظار ومشاهدة ما تسفر عنه الأحداث داخل المملكة المتحدة. والتي. للسخرية. كانت الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس. لكنها ها هنا اليوم غير قادرة علي توجيه دفة الأحداث داخليًا! البرلمان الأوروبي مع اقتراب موعد إجراء انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة في مايو المقبل لم يعد في الوقت متسع للاسترخاء. فبعد استفتاء البركست وصعود ترامب إلي البيت الأبيض في عام 2016 دخلت أوروبا عميقًا في حالة من عدم التيقن وبخاصة بعدما تبددت الآمال التي كانت معقودة علي إيمانويل ماكرون الليبرالي بعدما فاز بالرئاسة الفرنسية في عام 2017 فالفوضي التي اجتاحت فرنسا مع احتجاجات السترات الصفراء لا يمكن التنبؤ بمصيرها داخل فرنسا نفسها ناهيك عن باقي أوروبا. لكن الأكيد هو أن الحوكمة في أوروبا علي المحك. مع خسارة الأحزاب السياسية أمام أحزاب وحركات متعجرفة من اليمين واليسار علي حد سواء. ومع هذا التشرذم المتزايد والاستقطاب السياسي أصبحت عملية تشكيل الحكومات القومية طويلة وشاقة بعدما كانت نمطًا سلسًا ومتكررًا وقد حدث هذا في إيطاليا وحتي في السويد وهي من أكثر دول العالم. وليس أوروبا فقط. تنعمًا بالاستقرار والرخاء. خلافات سياسية أدت الخلافات السياسية إلي تباطئ نمو الاقتصاد الأوروبي حتي من قبل مظاهرات السترات الصفراء في فرنسا. وكذلك قبل أزمة إيطاليا مع الاتحاد الأوروبي حول الميزانية التي ظهرت فيها الاختلافات السياسية جليا. النبرة الطائفية مع تباين وجهتي النظر الإيطالية والفرنسية. فلا مناص من كون التغيبر يعتمد علي الإصلاحات السياسية وهي بطبيعتها مؤلمة. في كل دولة علي حدة. وبغض النظر عن استمرار. أقوي زعماء أوروبا أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية في منصبها من عدمه. فمن الواضح أن التخبط السياسي في ألمانياوفرنساوإيطاليا والمملكة المتحدة سيتيح الفرصة للشعبويين ومن يسمون أنفسهم الديمقراطيين غير الليبراليين مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لبناء الجدران العازلة ماديا ومعنويا وحشد الجهود وراء أشباح القوميات التي تهدد بتحويل أوروبا إلي ملوك طوائف بعيدا عن الوحدة. العداء مع الولاياتالمتحدة أصبحت البيئة الخارجية لأوروبا أكثر عدائية لا سيما بعدما فقدت أحد أهم شركائها. الولاياتالمتحدة بل إنها تحولت إلي عدو محتمل أو مشاكس علي أقل تقدير بسبب النبرة الاستعلائية والهجوم الشديد الذي يوجهه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلي أوروبا من حين لآخر. فالتعريفات الجمركية التي فرضها ترامب علي واردات أوروبا اعتقادا منه بأنه يحمي الأمن القومي الأمريكي. لن يجد سوي الرد المماثل من صناع القرار في أوروبا. ولن يؤدي ذلك سوي إلي سقوط الضحايا من الجانبين واحتقان الأوضاع بينهما. العداء الخارجي قد يتعين علي الاتحاد الأوروبي تعريف نفسه من جديد في العام المقبل 2019 فمع تزايد البيئة العدائية سياسيا وجغرافيا خارج الاتحاد لم تعد القوة الناعمة تجدي نفعا وحدها وعلي الاتحاد تعزيز قدراته العسكرية الثقيلة لا سيما وأن الشراكة العسكرية مع الولاياتالمتحدة توشك أن تكون أطلالا من الماضي ليظل قادرا علي مواجهة أعدائه التقليديين في روسيا والصين وحيدا.