تهدر أمواج الغضب داخل النفوس العربية فيثور بركان الرفض الجمعي ملقياً بحممه المشتعلة في كل اتجاه.. وبالطبع للجميع الحق في ذلك. فهي القدس عروس عروبتنا نراها تستلب من بين أيدينا للأبد.. ولكن.. هل نترك ألسنة اللهب تحرق بيوتنا كما أراد العم سام؟! وللإجابة علي هذا التساؤل المحوري يجب علينا تأمل الوضع برؤية وعقلانية ومن عدة محاور. هل هذا القرار عشوائي حقاً؟! - وصف البعض ترامب وقراره بالحماقة والتهور. وقال البعض إن هذا القرار هو عمل سياسي اعتباطي لا يليق بدولة مؤسسات عريقة كالولايات المتحدة وأجمع الكثيرون أنه مجرد رئيس أرعن أشعل المنطقة بلا فهم لتوابع قراره الذي سيزيد حدة العنف والكراهية في المنطقة والعالم أجمع. علي العكس مما سبق. فأنا أراه قد اتخذ الفعل السياسي السليم بالنسبة له وبما يحقق مصالح بلاده ومصالح حلفاءه. لنهدأ أولاً ونتعرف عن مفهوم مصطلح "السياسة".. فالسياسة هي "فن الممكن في التوقيت المناسب". - تري هل توافر توقيت مناسب لمثل هذا القرار علي مدار سبعة عقود مضت مثل اللحظة الآنية.. تعال نلق نظرة عامة علي التشرذم الضارب في أوصال الوطن العربي. دول عريقة أنهارت وتفككت.. ودول أخري لم تزل منخرطة في فعل المقاومة مما يستنزف مواردها وقوتها. - منذ سنوات ليست ببعيدة كان وجود العراق بعتاده وقواته وعقيدته العربية يمثل ورقة ردع مدخرة أمام التبجح الإسرائيلي. .. فأين العراق اليوم؟ - منذ بضع سنوات كانت سوريا تقف كدولة مواجهة تقود ماتمت تسميته بمحور الرفض. مما كان يشكل ورقة ضغط علي الكيان الصهيوني تدفعه لتقديم تنازلات لمحور السلام. أي تقوم إسرائيل بالانسحاب من كل الأراضي المحتلة عام 1967م مقابل علاقات وتطبيع مع العالم العربي. بينما السعودية اليوم لم يعد لديها شئ لتقدمه وبالتالي لم يعد هناك داع للتخلي عن الأرض. - إذن.. لقد جاء القرار الترامبي سديدا في توقيته مرتكزا علي حقائق تشظي الدول العربية وصراعاتها المحمومة داخلياً من جانب أو تناحرها فيما بينها من جانب آخر. فها هي الدولة الخليجية المارقة لاتدع وسيلة إلا واستخدمتها علي أمل زعزعة استقرار دول شقيقه لها..! والأهم.. تلك الفصائل المتناحرة فيما بينها في الداخل الفلسطيني. ولكل فصيل حليف خارجي يموله بينما توارت القضية خلف المطامع والمؤامرات..! كيف جرؤ ترامب؟ - تعد القدس هي القضية الأخطر في مفاوضات السلام. ومنذ مؤتمر مدريد 1991 وما تلاه من لقاءات سرية في كوبنهاجن ثم اتفاقية أوسلو 1993 وما تلتها من مفاوضات.. حيث كان يتم تأجيلها وعدم الخوض فيها نظراً لحساسيتها القصوي فهي تعد رمزاً روحياً ولها مكانة مقدسة في هوية المسلمين والمسيحيين معاً. إذن فالقدس لغم شديد الانفجار تجنبه كل العقلاء. فكل مرشحي الرئاسة الأمريكية قدموا الوعود بالاعتراف بها عاصمة لإسرائيل ولكن لم يجرؤ أحدهم علي وضع الوعد حيز التنفيذ كما فعل ترامب..! لماذا يكرهوننا؟ - إنه السؤال المحوري الذي عملت عليه مراكز الأبحاث الأمريكية عقب أحداث سبتمبر 2001م وتجدد هنا الشارة لتصريح لافت لوزير الدفاع الحالي في عام 2013. قال "جيمس ماتيس" حينذاك: - "لقد دفعت ثمناً عسكرياً كل يوم كقائد للقيادة المركزية. وذلك لأنهم كانوا جميعاً ينظرون للأمريكيين باعتبارهم متحيزين لدعم إسرائيل". إذن. فهم يدركون جيداً أن هذا القرار سيفجر براكين الغضب والحنق مما سيولد عنفاً متوالياً يصعب حصر تبعاته ومضاعفاته. فقرار ترامب يضفي شرعية بأثر رجعي علي كل الأفعال المجرمة قانوناً والتي ارتكبتها إسرائيل منذ احتلالها للقدس الشرقية عام 1967م. بالإضافة لكونه اعترافاً بوأد حل الدولتين. - قبلة الحياة للإرهاب: بالطبع. لقد جلب هذا القرار الفرح لإسرائيل والمتعاطفين معها ومعهم وربما قبلهم جلب الفرح والفخر لأولئك المتطرفين الخطرين في المنطقة. فها هي الدعاوي تنطلق بتبني المقاومة كخيار وحيد.. ودعاوي أخري تلصق تهمة العمالة والخيانة لكل معتدل يحاول تكريس الحل الأمريكي يشعل براكين الغضب علي أمريكا ومن يتحالف معها بالقطع! بالطبع. لا يعني ما سبق أن نقع في بئر اليأس الآسن أو أن نستسلم لتلك الإدارة الباطشة والتي تبغي تصفية القضية الفلسطينية للأبد ونزع القدس من الجسد العربي. بل المقصد ألا ننجرف وراء الغضب العارم والحماسة المتوهجة فتنطلق النيران من داخلنا فتحرق أوطاننا بينما ينعم المغتصب برؤيتنا نرشق أسنة رماحنا في قلوبنا! يستطيع العرب الدفاع عن أنفسهم بما يملكون من أوراق ضغط مؤثرة.. بل ويستطيعون بالتعقل الحازم أن يردوا كرة اللهب إلي أحضان المحتل وحلفائه. فقد نخمد في مهدها ونوجه الغضب ضد العدو الحقيقي لأمتنا نطهر صفوفنا ممن يطعنوننا في ظهورنا بلا رادع من ضمير أو دين.