قليلة هي تلك النوعية من الرجال الذين يقتحمون حواجز المستحيل وهم يدركون تماماً أن العودة للحياة هي المستحيل بعينه.. إنهم اصحاب الهامات العالية الذين يغيرون وجه الحياة بما حباهم الله من إرادة وعزيمة وشدة بأس. وكم اجتمعت تلك الصفات النبيلة مدعومة بقوة الإيمان في شهداء حرب أكتوبر وفي مقدمتهم العقيد اركان حرب إبراهيم عبدالتواب قائد "ملحمة كبريت" التي تعد احدي المعارك التاريخية التي شهدتها حرب أكتوبر المجيدة وعندما تنشر الحقائق كاملة حول أداء الرجال وبطولاتهم سوف يتوقف التاريخ طويلاً أمام السجل العسكري المشرف للشهيد البطل إبراهيم عبدالتواب. لم يكن هناك في الأفق ما يشير إلي تجدد القتال أويبث القلق في نفوس الابطال المحاصرين في موقع كبريت- كانت الجبهة هادئة للغاية علي خلفية الرحلات المكوكية التي يقوم بها حين ذاك "هنري كيسنجر" وزير الخارجية الأمريكي والتي أوشكت علي التوصل إلي اتفاق الفصل بين القوات المقرر التوقيع عليه بعد عدة أيام حيث كان هذا الاتفاق محور الحديث بين قائد الموقع ورجاله. فقد كان إبراهيم عبدالتواب روح الموقع وقائد ملحمته يزرع الصمود في النفوس ويعمق الانسانية في الرجال يحرص أكثر ما يحرص علي الاجتماع برجاله بعد أداء صلاة الظهر يوميا في القطعة التي خصصها للصلاة علي رمال كبريت يقرأ ما تيسر من آي الذكر الحكيم ويشرح معني الآيات واسباب نزولها ثم يتحدث إلي رجاله عما جري في الموقع في اليوم السابق ويرد علي استفساراتهم. ** في عصر ذلك اليوم الموعود الذي اسدل فيه الستار علي حياة البطل الأسطورة إبراهيم عبدالتواب- الرابع عشر من يناير عام 1974- قبل توقيع اتفاقية فك الاشتباك بأربعة أيام فقط. انفرد القائد الجسور بنفسه وشرد بذهنه بعيداً وراح يتطلع إلي تلك اللحظة التي يري فيها أطفاله الثلاثة مجدداً: " مني- طارق- خالد" فقد رآهم لآخر مرة قبل اندلاع القتال بثلاثة أيام عندما تسلل إلي مخادعهم فجراً علي اطراف اصابعه وقبلهم ثم مضي إلي الجبهة.. في تلك اللحظات الإنسانية العميقة أطلقت المدفعية الإسرائيلية نيرانها علي موقع الشهيد واستقرت إحدي الشظايا في صدره فاستشهد البطل علي الفور قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره بثلاثة أشهر. ** وما بين الاصابة القاتلة وخروج الروح إلي بارئها تسارعت وتيرة الذكريات وبدت وقائعها أشبه بفيلم تسجيلي سريع الايقاع أمام عينيه فها هو يقتحم نقطة كبريت الحصينة شرق البحيرات المرة في الرابعة والنصف عصر يوم السادس من اكتوبر عام 1973. وها هو يواجه الأهوال مع رجال كتيبته يومي 22 و 23 أكتوبر في مواجهة مدرعات العدو وطيرانه. وها هو ينظم الصفوف ويوزع الرجال علي أطراف الموقع لتفادي القصف المركز لطيران العدو في أعقاب استشهاد مساعده المقدم محمد أيمن مقلد. وها هو يقوي عزيمة الرجال ويدعوهم إلي عدم الالتفات لنداءات العدو المحبطة عبر الميكروفنات فكم تكررت مثل تلك النداءات لدعوة القوات المصرية إلي الانسحاب بدون أسلحتهم. تلتها نداءات مماثلة للانسحاب بكامل اسلحتهم. ولكن البطل- بعد التواصل مع قيادات الجيش الثالث- كان يصر علي الصمود حتي النهاية. ** آخر الكلام: وبناء علي وصية الشهيد البطل إبراهيم عبدالتواب يتم لف جثمانه بالعلم المصري ليدفن علي مستوي الأرض تحت رمال قرية كبريت ويرفرف العلم المصري فوق الموقع تحية للشهيد ورفاقه أولئك الرجال الذين ارتفعوا من ترابية الأرض إلي روحانية السماء. فكأن صيحة "الله أكبر" مدد أي مدد . وذخيرة دونها ذخيرة وكأن جنوداً كثيرة لله- غير منظورة- يكادون يرونها رؤية العين ويلمسونها لمس اليد. ولله جنود السماوات والأرض.