كل العلماء الذين تولوا أمر دار الافتاء كانوا علي قدر المسئولية وقاموا بواجبهم علي الوجه الأكمل.. لا شك في ذلك . كل واحد من هؤلاء العلماء الأفاضل كانت له بصمة وسجل مواقف تشهد له وتؤكد إخلاصه لدينه وللموقع الكبير الذي شرف به. تعاملت صحفيا مع ستة من المفتين السابقين وأشهد لهم جميعا بالعلم والورع والاخلاص للدين والوطن حتي د. علي جمعة المفتي السابق الذي اختلفت معه كثيرا ووجهت له انتقادات موضوعية من خلال العديد من المقالات أشهد له بالكفاءة والإخلاص والوطنية والحرص علي الثوابت الإسلامية. لكن مع كل هذا التقدير والاحترام للمفتين السابقين فإنني مع ملايين المسلمين داخل مصر وخارجها نعلق أمالا أكبر وننتظر جهدا أكثر من المفتي الجديد د. شوقي إبراهيم علام الذي تولي هذه المسئولية الضخمة في وقت حرج للغاية . يأتي المفتي الجديد الذي اختارته هيئة كبار العلماء بالأزهر لأول مرة عن طريق الاقتراع السري المباشر ودون تأثير من أحد ليؤكد عهد استقلال المؤسسات الدينية في مصر عن السلطات السياسية والتنفيذية التي ظلت صاحبة قرار اختيار شيوخ الأزهر والمفتين وكانت في النهاية تختار من هم علي وفاق معها حتي ولو كانوا لا يحظون بالقبول الشعبي ولا يملكون مؤهلات المنصب الكبير والخطير. يأتي المفتي الجديد في وقت حرج للغاية تتعدد فيه الفتاوي المتشددة من جانب عناصر تدعي التدين وتملك صوتا عاليا بعد الثورة وأخطر هذه الفتاوي ما صدر مؤخرا عن عناصر محسوبة علي التيار السلفي وتحض علي العنف ضد المتظاهرين والمعارضين لهم الأمر الذي ينذر بموجات من العنف والفوضي نسأل الله عز وجل أن يسلم البلاد والعباد منها .. وهذه النوعية من الفتاوي المتطرفة والبعيدة عن سماحة الإسلام وعدله مطلوب من المفتي مواجهتها بكل حسم ودون تردد أو الدخول في دوامة توازنات مع تيارات دينية متشددة تثبت كل يوم أن قادتها والمتحدثين باسمها في أمس الحاجة الي معرفة الإسلام من مصادره الصحيحة وليس من خلال شيوخ التطرف والغلظة . لقد نجحت هيئة كبار العلماء بالأزهر في اختيار مفت لكل المصريين. رجل تربي في الأزهر منذ نعومة أظفاره ويملك حسا إسلاميا ووطنيا شهد به كل من يعرفه وسبق وتعامل معه. ولذلك لا وصاية لأي تيار أو حزب أو جماعة علي مفتي مصر. وليس من المقبول أن يطلب منه أحد فتوي أو اجتهادا أو موقفا بصيغة الأمر حتي ولو كان رئيس الجمهورية. بل ينبغي أن يتعامل معه الجميع بالاحترام الواجب وأن يذهب إليه أو يتصل به أصحاب الهوي السياسي ليتعلموا منه كيف يكون الموقف الشرعي الصحيح بعيدا عن المتاجرة السياسية وتوظيف الإسلام لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية. وفي المقابل لابد أن يكون مفتي مصر واضحا في ما يصدر عنه من فتاوي أو مواقف. لا يتعاطف مع تيار سياسي أو فكري علي حساب تيار آخر. وعليه أن يتجنب المعارك السياسية التي تطحن المصريين الآن وتصنفهم وتحكم علي غالبيتهم بالخيانة والاضرار بالمصالح العليا للوطن.. لكن تجنب الأهواء السياسية لا يعني بأي حال أن تنعزل دار الافتاء عن الوطن وهمومه وأزماته ومشكلاته. وأن يقتصر دور مفتيها ومعاونيه علي الرد علي تساؤلات المسلمين عن الصلاة والزكاة والحج والمشكلات الزوجية. فليس مطلوبا من المفتي الجديد أن يتجنب الحديث عن مشكلات الوطن وهموم البلاد والعباد تحت شعار "لا سياسة في دار الافتاء" بل مطلوب منه أن يكون صاحب رؤية توافقية وأن تنضم جهوده الي جهود شيخ الأزهر لجمع شتات السياسيين المصريين الذين يتصارعون علي المناصب والغنائم ولا علاقة لهم بالجوعي والمرضي والعاطلين . قضايا الاعدام التي ترسلها محاكم الجنايات الي دار الافتاء لمراجعتها وإبداء الرأي الشرعي فيها تحتاج الي جهد مضاعف من المفتي الجديد في ظل زيادة أحكام الإعدام بسبب حالة الفوضي والاستهانة بأرواح وأعراض الناس في السنوات الأخيرة.. وإذا كان المفتي السابق د. علي جمعة قد اهتم بهذه القضايا تقديرا لحماية أرواح الناس والخوف من أن تزهق دون أدلة وبراهين شرعية كافية فالأمر يحتاج الي اهتمام أكبر من د. شوقي إبراهيم حيث تستقبل دار الافتاء شهريا ملفات عدد غير من هذه القضايا. وموقف دار الافتاء من قضايا الاعدام لا ينبغي أن يكون استشاريا أي تأخذ به المحاكم أو تهمله- بل ينبغي أن يسعي المفتي الجديد الي تعديل التشريع ليكون رأي المفتي معتبرا في هذه القضايا حماية لأرواح المتهمين فالفقهاء يؤكدون أن الخطأ في العفو أرحم بالانسان والمجتمع من الخطأ في العقوبة.وعندما تنفذ عقوبة إعدام في متهم بريء أو لا يستحق جرمه عقوبة مشددة. فقد وقع الظلم وعمت البلوي. لقد رفض المفتي السابق د. علي جمعه خلال العام الماضي إعدام تسعة متهمين في قضايا متنوعة لعدم كفاية الأدلة من الناحية الشرعية ورفض إبداء الرأي في ثلاث قضايا وترك أمرها للمحكمة. ووافق علي إعدام 192 متهما في قضايا قتل عمد واغتصاب واتجار في المخدرات . وحاليا تنظر دار الافتاء ملفات أكثر من ثلاثين متهما طلبت المحاكم إبداء الرأي الشرعي في تنفيذ عقوبة الاعدام فيهم وبعض هذه القضايا لها أبعاد سياسية وطائفية وتنتظر الجماهير والسلطات المتعددة موقف دار الافتاء منها .. وهذا يفرض علي المفتي الجديد أن يضاعف عدد المستشارين الشرعيين والقانونيين حماية لأراوح الأبرياء