في كل مرة أغادر الوطن في زيارة للخارج.. يهاجمني ويسيطر علي تفكيري هاجس لا ينحصر فقط في المقارنة بين أوضاعنا في الداخل وأوضاع الانسان في العالم المتقدم ولكنه هاجس ينحصر في سؤال واحد لماذا يواصلون تقدمهم الانساني - الكبير - في كل نواحي الحياة لمزيد من الرفاهية الشديدة ولماذا تزداد معاناتنا نحن في مصر مع الأيام ايضًا بل وصلنا إلي درجة أصبحنا معها نخشي من المستقبل حتي لا تزيد الأوضاع تدهورًا!! وجدت الاجابة في التعليم وكيف أصبحت هذه الكلمة البسيطة التي تتكون من سبعة حروف فقط لا غير هي البوابة التي عبر منها الآخرون ولا نقصد طبعًا تعليم ال100 اليوم الذي يحصل عليه طلابنا أو مناهج الحفظ والتلقين وانما هو التعليم الذي يحث علي التفكير ويقود إلي الابداع ومن ثم يرفع من شأن الانسان وتقدمه إلي مجالات بعيدة للغاية نحن قد لا نتصورها الآن. فالتقدم نتاج للتعليم ولحزمة الأفكار والأهداف التي تريدها هذه الدول ولم ينحصر آثاره فقط في مجالات الحضارة والتقدم التي نشاهدها أي في مجال التطبيق للعلم في طائرة وصاروخ وسيارة وموبايل إلي آخره وإنما التقدم ايضًا انعكس علي كل شئ في السلوك الانساني ليس ايضًا في النظافة والانضباط وإنما حتي في السلوك الانساني تجاه ما يحمله الكون من اشياء أخري، بمعني آخر أن التقدم هو منظومة متكاملة تقود الانسان إلي الرفاهية وتحسين أحواله المعيشية ولا يتم قياس التقدم فقط بارتفاع حصيلة مستخدمي الموبايل والانترنت أو زيادة استهلاك المشروبات الغازية وانما التقدم يقاس بالسلوك الانساني ومدي قدرة المجتمع علي صهر الجميع في منظومة منتجة حتي لو كانت من فئة ذوي الاحتياجات الخاصة أو المعاقين ذهنيًا!! هذه الفئة التي حرمت من بعض الامتيازات للأشخاص الاسوياء كما خلقهم الله وليس لهم ذنب في أوضاعهم، تراهم في هذه المجتمعات درة اهتمام ليس الحكومات فقط بل الأفراد وحتي الأطفال ايضًا في المدارس. مناسبة هذا الكلام هي التجربة الشديدة الانسانية التي عشتها مؤخرًا في زيارة إلي ألمانيا، وتحديدًا زيارة مؤسسة تاتهوف لتأهيل وتدريب ذوي الاحتياجات الخاصة وهي مؤسسة عمرها 40 عامًا في المجتمع الألماني وتحديدًا في الجنوب الألماني بمدينة أولم مسقط رأس العالم الكبير اينشتين هناك اكتشفت أن المعاق ذهنيًا وليس جسديًا فقط له مكان في هذا المجتمع وانهم سيهتمون به كانسان كامل يحصل علي مكان في التعليم والمدرسة بل والأكثر من ذلك تتم الاستفادة بهم كطاقة منتجة في كثير من الأعمال والوظائف التي تخدم الاقتصاد بل والشركات الكبري. وفي هذا المركز اقيمت مدينة متكاملة لهذه الفئة من المعاقين هذه المدينة المتكاملة لا يقبل بها إلا من تجاوزوا مراحل التعليم أي بعد سن 18 عامًا وبل ويشتركون ايضًا في ادارتها وفي تسيير العمل بها وحتي في اجراء انتخابات داخلية بينهم لاختيار من يمثلهم ويعرض مطالبهم علي الادارة رأيت كيف يتم تدريب هذه الفئات وبعضهم لديه حالات اعاقة ذهنية مركبة "أي حالات صعبة" كما نقول عندنا خطر يعني هؤلاء يعملون ويتدربون ويحصلون علي اجر ايضًا - أي اصبحوا قوة منتجة لأكبر الشركات العالمية فقد شاهدنا كيف أن هؤلاء وبعد ان حصلوا علي تدريب لا تقل مدته عن عامين يساهمون في عجلة الاقتصاد الألماني فاكبر شركات السيارات في ألمانيا والعالم كله تسند لهؤلاء تصنيف وتصنيع اجزاء تساهم في صناعة السيارة "جزء في عجلة القيادة" ليس هذا فقط بل انهم يتعاملون بسهولة مع عصر المعلومات ويستخدمون الكمبيوتر ايضًا وللعلم كافة المسابقات الكبري التي تعلن عنها الشركات الصناعية الألمانية تقوم هذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة بالعبء الأكبر في تسجيل الكوبونات التي يرسلها "الأفراد" وهم يقومون بالعمل كاملاً حتي يصل إلي اعداد قوائم الفائزين وارسال الجائزة إليه والغريب أن نسبة الخطأ كما قال لنا مدير المؤسسة صفر في المائة حتي الآن. هذه الفئة تحصل علي مرتب يتراوح ما بين 400 إلي 450 يورو شهريًا مقابل ساعات عمل تصل إلي 35 ساعة أسبوعيا وحتي الشركات أو المؤسسات التي لا تستطيع توظيف نسبة من هؤلاء "القانون الألماني يحدد نسبة عمالة 6% من ذوي الاحتياجات الخاصة" يدفعون للدولة مبلغ 200 يورو شهريًا إذا كان نوع المؤسسة لا يسمح باستيعاب هذه الفئة هكذا تم عن طريق العلم والدراسات استيعاب هذه الفئة من المجتمع خاصة أن الأبحاث والدراسات العلمية التي تجري قد اكدت أن فئة المعاقين ذهنيًا وذوي الاحتياجات الخاصة لديهم مهارات وامكانيات في اشياء أخري وعلي سبيل المثال لديهم ملكة التركيز الكامل والشديد لعدة ساعات متواصلة في شئ واحد وهو معدل يفوق الانسان الطبيعي وبالتالي يمكن الاستفادة منهم في بعض الأعمال التي لو مارسها الانسان الطبيعي لحدثت اخطاء كثيرة بسبب الملل من تكرار عمل شئ نفسه وهكذا عن طريق العلم تم دمج هذه الفئة داخل المجتمع وبالنظرة أن لهم أهمية قصوي ليس فقط تحت منظومة العمل الانساني فقط ولكن لأن لهم أهمية وفائدة في دفع عجلة الانتاج ايضًا داخل المجتمع الصناعي. هل يمكن أن نستعير هذه التجربة؟ كان هذا هو السؤال الملح وأجاب عنه د. أشرف منصور رئيس مجلس امناء الجامعة الألمانية بالقاهرة من خلال توقيع اتفاقية بين هذه المؤسسة وهي أول اتفاقية تقع خارج حدود المؤسسة بين الجامعة يتم فيها الاتفاق علي إنشاء مركز داخل الجامعة لتدريب "المصريين" الذين سوف يتدربون للتعامل مع هذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة لأن المشكلة كما يقول د. أشرف ليست في الاهتمام لهذه الفئة ولكن في توفير الكوادر البشرية التي تستطيع التعامل معهم وفي دمجهم في آلية داخل المجتمع وبالتالي فالمهمة الأول هي توفير الكوادر البشرية المؤهلة للتعامل مع هذه الفئة وقبل حتي انشاء مراكز لاستيعاب المعاقين وهكذا كان التعليم والبحث العلمي ليس فقط من أجل الاصحاء ورفاهيتم وانما ايضًا العلم والتدريب ولأجل كل فئات المجتمع وعلي رأسهم فئات ذوي الاحتياجات الخاصة. في حين اننا مازلنا نعيش ونعاني مع هذه الفئة والتي وصلت احتجاجها إلي أرصفة مجلس الشعب - تطالب بفرصة عادلة ليس فقط في التعليم ويحدث في وانما حقهم في مسكن ووظيفة - بل ومكان آمن يعيشون فيه لا يتعرضون فيه للأذي النفسي والمعنوي والجسدي كما نسمع كثيرًا عما مؤسسات رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة والايتام وأطفال الشوارع تحتاج إلي نظرة جديدة تقوم علي العلم والتعليم وان هذه الفئة وان كان الله قد خلقها علي هذه الشاكلة فهم ايضًا يمكن استيعابهم والاستفادة بهم كعنصر منتج في المجتمع وليس عالة عليه مجتمع يهتم بهم خاصة أنه طبقًا للأرقام المتاحة نحن لدينا 8 ملايين من هذه الفئة - يمثلون بالفعل - معاناة لأسرهم ليس طبعا في رفاهية وجود فرصة عمل وانما حتي في وجود مراكز علمية وانسانية تعرف كيف تتعامل مع هؤلاء بشكل علمي إنساني يمثلون ايضا مشكلة للأسرهم حتي في أبسط الحقوق وهو حق السير في الطريق بل وحق دخول "الحمام" وهو بالتأكيد مشكلة كل مصري من الاسوياء أيضا لا يجد مكانًا آمنًا يسير فيه أو يعيش فيه فما بالك بفرصة عمل آدمية في مكان انساني شديد الجمال والنظام. هكذا كان التعليم في خدمة الانسان ايا كانت ظروفه ومشاكله وهكذا كان التقدم سلسلة من القواعد والنظم انعكست في سلوكيات الانسان حتي وصلت إلي هذه الفئة من جنس البشر وينطبق علينا هنا قول الامام محمد عبده: هناك في العالم المتقدم رأيت اسلامًا بلا مسلمين وهنا رأيت مسلمين بلا اسلام هكذا نفهم روح الاسلام وعطاءه وانسانيته العظيمة بعيدًا عن الشكليات التي نعيشها الآن في مجتمعاتنا الاسلامية.