بدأت فى المقال السابق الدندنة حول مفهوم الصبر وحقيقته، وأشرت لأنواع الصبر التى ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى، وأنه على ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله. وفى هذه الظروف نحن أحوج ما نكون لتمثُّل هذه المعانى حتى نتصبر على ما يمر بنا من أحداث وحوادث تحتاج إلى نفوس قوية وعزائم أبية حتى نمر من هذه العقبات، ونتجاوز هذه المدلهمات بعزيمة وثبات، متحصلين على الأجر والحسنات. فعلينا أن نتصبر بالله تعالى؛ بأن نلجأ إليه سبحانه وتعالى نستمد منه الصبر والتأييد؛ بتمثل أسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فهو القادر على نصر الحق وأهله، وهو العليم بمن يستحق النصر، وهو اللطيف فيما ينزله علينا من بلاء، فضلا عن أنه سبحانه وتعالى هو الصبور؛ فلنعش مع هذه الأسماء الحسنى، ونكثر من دعائه والتوسل إليه بها؛ فهو ملجؤنا ونعم الوكيل، شعارنا فى كل هذا {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}. ثم علينا أن نصبر لله؛ بأن نراقب نياتنا وسرائرنا فى كل حركاتنا وسكناتنا؛ فنحرص على أن يكون أمرنا كله خالصا لله تعالى، مبتغين به نصرة الحق وأهله، ودحر الباطل وجنده، بغيتنا فى ذلك إعلاء كلمة الله تعالى، مترجمين إلى واقع عملى شعارنا (الله غايتنا)، وهتافنا (هى لله هى لله.. لا للمنصب لا للجاه.. فليعد للدين عزه.. فليعد للدين مجده، أو تُرَق منا الدماء). ثم علينا أن نصبر مع الله، فإذا كان صبرنا بالله تعالى، ولله تعالى؛ فلا بد أن تكون أفعالنا موافقة لمراد الله تعالى؛ بحيث تكون كل تحركاتنا على بصيرة شرعية، فنحرص على ضبطها بميزان الشرع الحنيف؛ فلا نقع فيما يقع فيه الآخرون من مخالفات تحت ضغط الظلم والعدوان؛ بل نعامل الآخرين بأخلاقنا وآدابنا ولا ننجر لأمر يشينه علينا الآخرون أو يطعنون به فى مشروعنا وقيمنا وآدابنا، متمثلين دائما قول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}؛ فأن تصبر على أذى الآخرين هو خير لك ولدعوتك ولمشروعك، ولعل هذا ما عبر عنه فضيلة المرشد فى كلمته على منصة رابعة العدوية التى تحولت إلى شعار ملهم "سلميتنا أقوى من الرصاص". رابعا- درجات الصبر: ذكر شيخ الإسلام الهروى أن الصبر على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الصبر عن المعصية بمطالعة الوعيد إبقاءً على الإيمان، وحذرًا من الحرام، وأحسن منها الصبر عن المعصية حياء. والدرجة الثانية: الصبر على الطاعة بالمحافظة عليها دوامًا، وبرعايتها إخلاصًا، وبتحسينها علمًا. الدرجة الثالثة: الصبر فى البلاء. أخى الحبيب، كيف تلتمس النصر من الله تعالى وأنت تقارف الذنوب والمعاصي؟! كيف تعصى ربك وتصر على ذلك ثم تتنظر منه النصر والتأييد؟ ألا تعلم أن الرجل ربما يُحرمُ الرزق بالذنب يصيبه؟ فإذا كان ذلك مع أمر سهل مثل هذا؛ ما بالك بالتمكين والنصر والعزة فى الدنيا؟! ألا تعلم أن الله تعالى أخَّر النصر على أحب الخلق وأحب القرون إليه بما اقترفه بعضهم، فقال تعالى: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شىء قَدِيرٌ}، وما حدث فى غزوة أحد فى تحول النصر إلى هزيمة بسبب مخالفة البعض ليس بخافٍ عنا. فليعلم كل منا أنه على ثغر، وأنه ربما يكون سببًا فى تأخر النصر عن الجميع بعدم صبره عن المعصية. ثم نأتى للدرجة الثانية وهى الصبر على الطاعة: إذا كانت المعاصى سببا فى الهزيمة وتأخر النصر ففى المقابل تكون الطاعة سببا فى جلب النصر والتمكين، وهذا ما عبر عنه القائد الربانى صلاح الدين الأيوبى بقوله: "من هنا يأتى النصر" حينما وجد الجنود يقيمون ليلهم ويدعون ربهم، وقال فى سياق آخر: "من هنا تأتى الهزيمة" حينما وجدهم ينامون ويغفلون عن تلمس النصر بالطاعة والقرب لله تعالى. وقد قرن الله تعالى بين الصبر والطاعة فى أكثر من موضع فى كتابه، مثل قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وقال تعالى فى موضع آخر بعد أن أمر بذكره سبحانه وتعالى وشكر والبعد عن كفره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}؛ فليكن حال كل منا كحال من انسدت عليهم الصخرة فى الكهف فالتمسوا الفرج بالتوسل بصالح أعمالهم. ثم الدرجة الثالثة للصبر، وهى الصبر فى البلاء، وهى نتيجة حتمية لتحقق الدرجتين الأوليين؛ فمن صبر عن المعصية، وصبر على الطاعة؛ فإنه سيكون مهيأ للصبر على البلاء الذى يصيبه؛ حيث تكون نفسه قد قويت وعزيمته قد اشتدت؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل". وأختم هذا المقال - على أمل استئناف هذه الدندنة فى الأسبوع المقبل بمشيئة الله تعالى - بقول الشاعر: اصْبرْ على مَضَضِ الإِدْلاجِ فى السَّحَر *** وفى الرَّوَاحِ إِلى الحاجاتِ والبَكَرِ لا تَعْجِزَنَّ ولا يُضْجِرْك مَحْبَسها *** فالنُّجْحُ يَتْلَفُ بَيْنَ العَجْزِ والضَّجَرِ إِنِّى رَأَيْتُ وفى الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ *** للصَّبْرِ عاقِبَةً مَحْمُودَةَ الأَثَرِ وقَلَّ مَنْ جَدَّ فى أَمْرٍ يُطالِبُهُ *** فاستَصْحَبَ الصَّبْرَ إِلا فاز بالظَّفَر