ربط كثير من المحللين السياسيين بين قيام قوات من الجيش بالانقلاب العسكري ، وبين خروج المخلوع مبارك والإفراج عنه، وهو ما عبّر عنه البعض بالولاء الشديد من قبل نخبة الإنقلابين داخل الجيش لمبارك لما كانوا عليه من وضع متميز في ظل نظام المخلوع، فضلا عن المصالح الخاصة التي صنعها لهم ومن ثم يستميتون اليوم في الرجوع إليها. وقد تنبأت دراسة سابقة بالوضع الحالي في مصر ولكن بشكل غير مباشر؛ حيث حذرت ورقة بحثية صادرة في بداية تولي الرئيس د.محمد مرسي، وبالتحديد في أغسطس 2012، تحت عنوان:"فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر"حذرت من حالة فساد - خاصة جدا- تركها النظام السابق متغلغلة في البلاد؛ فنتيجة لحرص مبارك علي إقصاء الجيش عن العملية السياسية، وإنفراده بها وحده، وأيضا نتيجة رغبته في السيطرة علي مفاصل الدولة وصناعة أذرع ممتدة فيها شديدة الولاء له. كل ذلك أدي إلي إعادة بلورته للمؤسسة العسكرية بما يضمن له تحقيقه لكافة تلك الأهداف في وقت واحد، حيث عمل من جهة علي صناعة قائمة من المصالح الإقتصادية والمادية تشغل الضباط عن التوغلات السياسية، فضلا عن قائمة أخري من المناصب بانتظار من يُظهر الولاء منهم عقب تقاعده، وهو ما يعني استمرار ولائهم للنظام الذي سمح لهم بذلك الإغراق المادي والإجتماعي، مما يضمن تنفيذ كل ما يُطلب منهم وبلا مناقشة، فتكتمل بذلك السيطرة علي القوات المسلحة من جهة، وعلي كافة أجهزة الدولة ومؤسساتها من جهة أخري. سيطرة اقتصادية وكانت سيطرة الضباط ليس فقط من خلال الوظائف والمكانة الإجتماعية، ولكن امتد ذلك أيضا من خلال السيطرة علي نسبة كبيرة من الاقتصاد القومي المنبثق من عدد من الاتجاهات من بينها الشركات الخاصة التي بدأت القوات المسلحة في تأسيسها ورعايتها والإشراف عليها بعد انتهاء مرحلة الحرب وعقد إتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني. فبحسب الدراسة-الصادرة عن مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، وهي مؤسسة أمريكية خاصة-:"تدير جمهورية الضباط اقتصادها العسكري الرسمي الخاص، الذي يدرّ عليها مصادر دخل لا تمرّ عبر الخزينة العامة. ويُعتقَد أن جزءاً من العوائد يُنفَق على بدلات الضباط ومساكنهم، وعلى إدخال تحسينات أخرى على مستويات المعيشة" . وتوضح الدراسة أن للجيش ميزانية ضخمة كانت تزيد عن 4.25 مليار جنيه دولار 2012، بخلاف ما يقرب من 1.3 مليار ات دولار من المعونة الأمريكية. وبجانب ما سبق ، تحول الأمر في مصر إلي نوع من الرأسمالية شديدة التشوه وذلك بعد انتهاج سياسة الخصخصة من قبل نظام مبارك وبيع شركات القطاع العام ، وهو ما وفر:"فرصة لكبار الضباط في القوات المسلحة للوصول إلى حيِّز كبير من الاقتصاد المصري الذي بقي مملوكاً للدولة. وقد تم هذا الاحتواء للضباط ليس فقط من خلال التعيين في مجالس إدارات تلك الشركات، بل أوجدت الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة في الفترة التالية فرصاً جديدة للضباط السابقين المتواجدين في الإدارة المدنية، للحصول على الثروة أو لزيادة أملاكهم وموجوداتهم". هيئات الدولة واستدلت الدراسة بنموذج هام بيّن مدي تغلغل رجال المؤسسة العسكرية في أجهزة الدولة؛ وهو هيئة الرقابة الإدارية، فهو جهاز منوط به الكشف عن الفساد في أية مؤسسة، عدا القوات المسلحة؛ التي لا تخضع لأية رقابة عدا رقابة الرئيس، ولم يكن الفرار من الرقابة هو كل شيء، فالمسيطر علي تلك الهيئة-الرقابة الإدارية-هم أيضا ضباط الجيش المرضي عنهم، وذوي الحظوة، ولم يكن من حقهم ممارسة عملهم بواقعية بحيث يتم الكشف عن الفساد الفعلي، وإنما:"عملت هيئة الرقابة الإدارية كوسيلة لترهيب المعارضين ومعاقبتهم، والسيطرة على مؤيّدي النظام، وكان بالإمكان أيضاً كبح جماحها عندما تهدّد تحقيقاتها السياسيين أو رجال الأعمال المقرّبين من الرئيس". وبالمثل كانت السيطرة علي أنظمة الحكم المحلي، "حيث يصل المجموع الكلي للمناصب التي شغلها ضباط سابقون من القوات المسلحة في هيكل الحكم المحلي على المستوى القومي إلى نحو 2000". وهو ما تبعه كذلك التواجد في العديد من الإدارات والهيئات في"مجال الخدمات والتنمية الاجتماعية والصحية والرعائية والتربوية، حيث يوجد للمحافظة، وكل مركز من المراكز والمدن التابعة لها، مدراء للتخطيط والعقارات المالية والمشاريع و الشؤون الفنية والهندسية، و يدير هؤلاء مجموعةً واسعةً من الدوائر الخدماتية وفروع شركات المرافق العامة والكيانات الحكومية الأخرى، التي تحتاج جميعها إلى الموظفين؛ فتُشغل هذه الوظائف بالضباط السابقين.كما يرأسون أيضا الدوائر المتخصصة. والتي تشمل على سبيل المثال، دائرة المحاجر والخدمات الجيولوجية و شعبة البيئة في محافظتي سيناء والبحر الأحمر، وهما محافظتان غنيتان بالموارد الطبيعية المجزية وتوفران فرصاً للحصول على دخل إضافي غير رسمي. وبما أن لدى المحافظين مستشارين عسكريين، فمن الطبيعي أن يأتي هؤلاء المستشارون من القوات المسلحة. وبإضافة هؤلاء المتقاعدين إلى المجموع العام، يصل عدد الضباط السابقين الذين يشغلون مناصب إدارية في مفاصل الحكم المحلي كافة إلى آلاف عدة." أيضا تتغلغل طبقة الضباط في قطاع "الخدمة المدنية" حيث:"يديرون الجامعات، أو يتواجدون في مجالس إدارة الكليات الأكاديمية أو مراكز البحوث المتخصصة، كما يعملون مدراء وموظفين في المعاهد القومية للمقاييس والمعايير وللتغذية، وجمعيات حماية المستهلك ومراقبة المياه...وغيرها من الجهات والهيئات". أما الوظيفة الاستشارية في الوزارات والهيئات فإن التقارير تشير إلي أن :"الرواتب الاستشارية تتراوح بين 6000 و 28000 جنيه مصري ) 1000 و 4670 دولاراً( في الشهر، إلى جانب البدلات والمكافآت التي تُقدَّر ب 10000 جنيه ) 1667 دولاراً شهرياً" . المشهد السياسي وتستطرد الدراسة في شرح تبعات ذلك التشوه الذي عانت منه البلاد في عهد نظام مبارك، فتري أن المؤسسة العسكرية عندما اضطرت إلي تصدر المشهد السياسي، لم يكن لديها خطة واضحة أو محاولة حقيقة للإصلاح أو الهيكلة، وإنما جاء اضطرابها لمحاولتها المستميتة الحفاظ علي مكتسبات طبقة كبار الضباط، ونفوذهم ومصالحهم في كافة مؤسسات الدولة، وحتي داخل الجيش نفسه، حيث تنتصر الدراسة لما يعتقده الشعب المصري من أن الجيش منقسم من داخله إلي الضباط والجنود الذين هم من أبناء الشعب و لم يكونوا يوما من أعضاء عالم المصالح هذا أو من المَرضيّ عنهم وذوي الحظوة في نظام مبارك، وأتباعه من بعده. أما القسم الآخر الذي تحدثت عنه الدراسة فهم تلك القيادات التي أفسدتها الأموال الطائلة والمصالح المتشابكة؛ ولذا فحينما حاول المجلس العسكري عقب توليه الحكم بعد خلع مبارك، أن يدعي أنه يعبر أو يُمثل مصالح القوات المسلحة جميعها، لم يكن ذلك محل تصديق وقناعة؛ فهو لم يكن يستهدف سوي تأمين الوضع المتميز للمؤسسة العسكرية في كافة مفاصل الدولة. ومن بين مظاهر هذا الارتباك بحسب الدراسة :"تأخيره للتشريعات التي تحتاج إليها البلاد جداً، وتدخّله بطريقة مزاجية في الإدارة المالية؛ كما فشل في إصلاح وزارة الداخلية و إعادة العمل الشرطيّ مع أن هذا كان أحد المجالات التي كان يمكن أن يحقّق فيها تقدّماً حقيقياً". وعليه فقد تنبأت الدراسة بأن سببا من أسباب ما شهدته البلاد حاليا هو أن الدولة المدنية كلما حاولت ترسيخ أقدامها، تبعتها في ذلك الدولة العميقة من الضباط بمحاولات عديدة للمقاومة وترسيخ الأقدام، مستغلة في ذلك شبكة علاقاتها في كافة المصالح والوزارات، خاصة ما تعلق منها بشبكة الخدمات الإجتماعية