بحوث كثيرة نُشرت لتفسير ظاهرة ترويض الشعوب، وأغلبها يتحدث عن استخدام نظريات علم النفس، فكل النظريات والأفكار قام عسكر الانقلاب بتطبيقها على الشعب المصري. في الحقيقة تم ضرب الشعب المصري في "خلّاط الترويض" بالمعنى الحرفي للكلمة، بمعنى أن العسكر طبقوا عليه غالب النظريات والأفكار التي جعلت الأجيال التي عاصرت عبد الناصر والسادات وبداية عهد المخلوع مبارك، مجرد قطعان ضعيفة خانعة منصاعة غير قادرة على تغيير واقعها المؤسف، إلا أن الأمر تغير بتغير الظروف والملابسات مع اندلاع ثورة 25 يناير 2011. سياسة الترويض التي قام بها العسكر منذ انقلاب يوليو 1952 استمرت أمدا طويلا، فكانت عواقبها وخيمة على المصريين، حين تجلت في مستوى التخلف الحضاري وتفاقم معدلات الفقر والجهل والظلم والاستنزاف لموارد وطاقات وثروات البلاد، والانجرار الأعمى خلف سياسات الغرب الصهيوني ومصالحه. كيف تمكن العسكر من ترويض هذه الشعب العظيم؟ وكيف نجحوا في إخضاعه طيلة عقود من الزمن رغم فساد حكمهم وضعف همتهم في الصعود بين الأمم؟ وما هي الآليات النفسية التي اعتمدها العسكر لكي يتحكموا في الملايين وترويضهم كأنهم قطعان تُساس لرغبات وأهواء الجنرالات الطغاة؟ نظرية صيد الفيل طوّر العسكر فكرة يتبعها الصيادون عندما يقومون باصطياد فيل حي لترويضه، حيث يستعملون حيلة للتمكن من الفيل الضخم صعب المراس، وتخيل أن الشعب المصري هو ذاك الفيل، وأن جنرالات العسكر هم الصيادون، فيحفرون في طريق سيره حفرة عميقة بحجم الفيل ويغطونها، تلك الحفرة مزيج من الوعود الزائفة بالرخاء والرفاهية والكثير من الديون الضخمة ورفع الأسعار عمدا، وحرمان الشعب من موارده الطبيعية، وحرب مصطنعة ضد الإرهاب وتفشي إعلام الرعب والخوف، وعندما يقع فيها الفيل– الشعب- لا يستطيع الخروج، كما أنهم لا يجرؤون على إخراجه لكي لا يبطش بهم وينتقلون إلى المرحلة الثانية من الترويض. في تلك المرحلة ينقسم الصيادون– العسكر- إلى قسمين: قسم بلباس أحمر وآخر بلون أزرق؛ وذلك لكي يميز الفيل بين اللونين؛ فيأتي الصيادون الحمر ويضربون الفيل بالعصي ويعذبونه وهو غاضب لا يستطيع الحراك، ثم يأتي الصيادون الزرق، فيطردون الحمر ويمسحون على الفيل ويطعمونه ويسقونه ولكن لا يخرجونه، ويذهبون وتتكرر العملية، وفي كل مرة يزيد الصياد الشرير الأحمر من مدة الضرب والعذاب، ويأتي الصياد الشريك الأزرق الطيب ليطرد الشرير ويطعم الفيل ويمضي، حتى يشعر الفيل بمودة كبيرة مع الصياد الشريك الطيب، وينتظره في كل يوم ليخلصه من الصياد الشريك الشرير. وفي يوم من الأيام، يقوم الصياد الشريك الطيب بمساعدة الفيل الضخم، ويخرجه من الحفرة، والفيل بكامل الخضوع والود مع هذا الصياد الشريك الأزرق الطيب، فيمضي معه ولا يخطر في بال الفيل أن هذا الطيب بما أنه يستطيع إخراجه، فلماذا تركه كل هذا الوقت يتعرض لذلك التعذيب؟ ولماذا لم ينقذه من أول يوم ويخرجه؟ ولماذا كان يكتفي بطرد الأشرار وحسب؟ كل هذه الأسئلة غابت عن بال الفيل الضخم، وهكذا يتم ترويض المصريين ثم يشكرون من يروضهم وهم أصلا سبب ما هم فيه من ألم وبلاء. عبد الناصر والترويض من أساليب الترويض التي اتبعها عبد الناصر، الإكثار من الاحتفالات والأعياد الوطنية التي تسبب حالة نسيان لما يعيشه الشعب من واقع مؤلم، وتعزز فيه شعور الانتماء والهوية والوطنية، وهو ما تنافس فيه المطربون أمثال أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهم، كما لا بد أن تعرض صورة الجنرال الديكتاتور بشكل متلازم مع الأغاني والأهازيج الوطنية، وهو ما كان يجري أيام المخلوع مبارك، واتّبعه الآن السفيه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي؛ فترسخ في أذهان المصريين قاعدة ربط الجنرال بالوطن حتى يصبح هو والوطن شيء واحد، ويكفي بعدها أن توجه المعارضة اتهاما واحدا للجنرال لتُتهم بالعمالة وكراهية الوطن؛ لأن الوطن اختزل في شخص الجنرال. وقد أدرك انقلاب 30 يونيو 2013 أهمية التحكم بالعقول والتلاعب بها وترويض المصريين، عن طريق وسائل الإعلام السمعية والبصرية، التي تُؤثر مباشرة في الحيّز الإدراكي للمصريين وتُهوّن المصاب وتُلمّع الجنرال السفيه، وتشغل الشعب بما تحدده هذه الوسائل الإعلامية وفق أهداف مدروسة، والتي تجبره في النهاية على احترام وتبجيل هذا الانقلاب لأجل مصلحة الوطن الواحد. اللافتات والملصقات التي تحمل وجه السفيه السيسي وتملأ الطرق والساحات وسيلة أخرى من وسائل الترويض، والتي لا بد أن توضع في مواقع مدروسة وتُنتقى لها العبارات المفحوصة، فصور السفيه المختارة بعناية بأزياء مختلفة ووضعيات معيّنة، لا توضع في أي مكان ولكنها توضع في مكان أعلى من المشاهد بحيث تصبح العلاقة فوقية دونية، فيتذكر المواطن المصري في كل حركاته أن هناك من يحكمه وتحفر في ذهنه تلك الصورة الفوقية وتلك السيطرة اللاإرادية لسلطته، وفق نظرية الأخ الأكبر التي وردت في رواية (1984) للكاتب العبقري جورج أورويل. ثورة ضد السيسي وحين يلحظ السفيه السيسي بوادر تمرد أو استنكار أو يقرر تمرير حدث أو قانون يعارضه الشعب، يعمد لشغل هذا الشعب بافتعال قضايا جانبية، كإثارة خلافات مذهبية فقهية أو عرقية أو اجتماعية، ويسارع لخلق أشكال من الفوضى لإثارة ردود أفعال معينة، يتفنن في تفجير أزمات أمنية أو اقتصادية، يضخ سيل الشائعات المشتتة والمضللة، ثم يطرح حلولا يتنازل المصريين بموجبها عن حرياتهم وحقوقهم، وتخمد ثورتهم ويتبدد غضبهم، فهل يفيق المصريون ويتعلمون من درس 30 يونيو؟ اختصارا فإن أخطر طرق الترويض التي يستخدمها الانقلاب العسكري لترويض الشعب، هو إشغال المصريين دوما بقضايا تافهة، ابتكر لهم باستمرار ما يلهيهم عن التفكير في قضاياهم الحقيقية، اخْلق أشكالا من الفوضى لإثارة ردود أفعال معينة، فجر أزمات أمنية أو اقتصادية أو اجتماعية، ثم اطرح حلولا يتنازل المصريون بموجبها عن حرياتهم وحقوقهم. لا تطبق ما يرفضه المصريون دفعة واحدة، فهذا سوف يثير غضبهم وثورتهم، قدم الدواء المر على مراحل، ارفع الأسعار والضرائب بالتدريج، وحتى تمرر القرارات المكروهة شعبيا، قدمها كدواء مؤلم لكنه ضروري، اطلب من المصريين أن يضحوا اليوم حتى يستريحوا غدا، العب دوما على عنصر الوقت وسوف تفاجأ بالنتيجة. خاطِب المصريين كأنهم جماعة من الأطفال، العب على العواطف والمشاعر والغرائز، لكن لا تخاطب العقول، فالمطلوب تغييب تلك العقول وإثارة الخوف من المجهول، دع المصريين يتصورون أنهم المسئولون عن تعاستهم بسبب نقص ذكائهم وقدراتهم ومجهوداتهم، وليس بسبب سياساتك الاقتصادية والاجتماعية. سيطر على المصريين باستخدام كل حيل الإعلام، واجعل الكل في قلق من المستقبل، سيطر على نوعية التعليم والإعلام، واصنع حالة عامة من الاكتئاب والانقسام والرغبة في التقوقع، شجع الناس على استحسان الرداءة حتى يظلوا أغبياء وهمجيين. ويلوح السؤال: هل يقود السفيه السيسي بهذا الترويض الدموي الفيل أو المصريين للثورة أم لانقلاب عسكري عليه؟