أرسلت حركة تغييرات المحافظين الواسعة رسائل متعددة للأطراف التى تراقب الوضع المصرى عن كثب؛ فبعض "مراكز التفكير" الأمريكية المهمة أصابتها حالة من الدهشة، ذلك لأنهم كانوا يضعون "الرئيس المصرى" فى مربع رد الفعل دائمًا، ثم يتوقعون بعد ذلك تصرفاته، التى قدّروا دائمًا أنه سيتصرف بطريقة محافظة؛ بحيث لا يغامر بخلق أى مشكلة مع الأمريكان! أزيدك تفسيرًا... فقد كانوا يتوقعون تأجيل حركة المحافظين إلى ما بعد 30/6 حتى لا يتعرض "الرئيس" لانتقادات مؤكدة أيا كانت شخصيات المحافظين، وكان هذا تأسيسًا على ما يرونه وضعا سياسيا ضعيفا "للرئيس" بسبب تضافر القوى "العلمانية" وبعض مؤسسات الدولة على "الرئيس"، مضافًا إلى ذلك الغضب الشعبى من نقص الخدمات الأساسية من الكهرباء والوقود. ولكن "الرئيس" فاجأ الجميع بإعلان الحركة المشتملة على محافظين من "الجيش" و"القضاء" و"الإخوان" ومحافظ "الأقصر" المنتمى إلى حزب "البناء والتنمية". واعتبر المقال الرئيسى لمركز "معهد واشنطن" أن حركة المحافظين تمثل "تهديدا للمصالح الأمريكية"... هكذا... لا سيما بتعيين محافظ "الأقصر"، والذى اعتبروه منتميا للجماعة الإسلامية ويحمل أفكارها الإرهابية!!...، ونصح الكاتب "إريك تريجر" واشنطن بأن تتحرك وتضغط على "الرئيس المصرى" مستغلة هذه الفرصة، ولكن الكاتب أبدى يأسه من تأثر (هذه) القيادة المصرية بالضغوط الأمريكية، ومع ذلك فقد عد هذه الضغوط مفيدة مستقبلًا!!... حيث سيتعلم "الرئيس المصرى" ألا يُعين شخصيات مقلقة "لأمريكا" مرة أخرى حتى لا يخلق مشكلة معها.. وهكذا نرى أن تفاصيل القرار المصرى موضوعة تحت المجهر فى أدق شرايينه. لكن الاحتشاد المفاجئ للقوى الإسلامية قد عقّد الحسابات، ورأت بعض المراكز -مثل "مركز ويلسون" و"المنتدى الشرق أوسطى" و"معهد الدراسات الخارجية"- أن معاداة النظام المصرى ستضع أمريكا تحت طائلة الغضب والكراهية من كل الأطياف الإسلامية فى العالم. ومن هنا نتوقع استدعاء عبارات (التكفير) و(لا يمثلون الإسلام) و(الإسلام الوسطى أى العلمانى)، (احتكار التحدث باسم الدين)... وأمثالها. والخوف الأمريكى من وجود "رئيس إسلامى" فى "مصر" معلوم وأصيل؛ حيث يرون أن مواقف الإسلاميين من الأمن الإسرائيلى مقلقة للغاية، وبالتالى مُهددة لإستراتيجية أمريكا بالمنطقة... هذه تقديراتهم. فإذا استرجعت هذا ووضعته بجوار خطبة "ليفنى" اليائسة التى تستنفر فيها الشعب الإسرائيلى ليكف عن إعلان عجزه بسبب التنامى الإسلامى فى الحكم حولها (أى فى مصر وتركيا)، وضرورة العمل على أن يدفع "مرسى" وأردوغان" ثمن خروجهما عن النسق الإسرائيلى. إذا وضعت المربعات بجوار بعضها فستظهر لك الصورة... وسيظهر لك لماذا تتردد أمريكا حينا وتخاطر حينا.. تخاطر أمريكا -مرحليا- بقبول هذه الاضطرابات فى "مصر" رغم خوفها الشديد دائمًا من مثل هذه الاضطرابات؛ والتى تعلم يقينا أنها تتحول بعد ذلك إلى معاداتها وتهديد مصالحها؛ حيث يشار لها دائمًا بأنها السبب فى توطيد الاستبداد والفساد فى منطقتنا. ولكن هذه المرة فإن المعارضة "علمانية"... أى صديقة، وهى موجهة نحو نظام لا تُؤمَن عواقبه !!... لذلك لا مانع من مساندة "ويندى شيرمان" -مبعوثة أوباما- للمعارضة، وإسدائها النصائح لها... لكن -ويا لها من كلمة- يأتى التردد فى صورة (الصدمة) وذلك فى محاضرة "السفيرة الأمريكية" الأسبوع الماضى فى "مركز ابن خلدون"؛ حيث أعلنت أنها اتصلت بقيادات من "الجيش المصرى"، وأعلموها أن "الجيش" لن ينجر مرة أخرى إلى التدخل فى الشأن السياسى حتى لا تتحول سهام النقد إليه من جديد، وحتى يستعيد ما فقده من مودة مع شعبه… وعدم استجابة الجيش تترجم فوريا بعدم استكمال "أمريكا" بمخاطرة دعم المعارضة للانقلاب على "الرئيس". كانت هذه المفاجأة المؤلمة سببًا فى أصداء هستيرية متعددة من المعارضة العلمانية، والتى بسببها طلب الناطق باسم "الجمعية الوطنية للتغيير" محاسبة "السفيرة" وتوبيخها من قبل الخارجية المصرية لأن هذه التصريحات تدخل سافر فى الشأن المصرى!!.. الآن فقط أصبحت تدخلا سافرا؟ وهل كانت كل المقابلات والترتيبات من أيام "أحداث الاتحادية" مقبولة ولها علاقة بالشأن المصرى؟ أم أن صدمة التأكيد على عدم نزول الجيش أشعرتهم أنه لا فائدة من الصداقة الأمريكية، التى كانت -بزعمهم- الأمل الأكبر فى إقناع قيادات الجيش فى إنقاذ مصر من الحكم الإسلامى!! مشكلة أخرى هبطت بمعنويات "المعارضة"، حين تصوروا السيدة "كاترين أشتون" ستعطيهم جرعة أمل تعويضية، لكن ممثلة "الاتحاد الأوروبى" صدمتهم من جديد بأن أعلنت أنه "لابديل عن المصالحة الوطنية فى مصر".... بمعنى أنه لا تأييد مطلقا من الأوروبيين "للمعارضة"، وأن الطريق الوحيد هو الجلوس على مائدة التحاور، وهذا ما دعا إليه الرئيس تكرارا، ورفضته المعارضة استكبارا. وحتى تنجلى الصورة، وتدرك مدى الإحباط، فعليك أن تتابع النشاط الكبير لرموز "المعارضة" وحضورهم المميز لكل منتدى دولى ينعقد بعاصمة غربية أو أمريكية... وستجد محاولات إقناع المجتمع الدولى بمساندة الفصائل التى تحقق لهم حلم القضاء على (حكم متطرف). والغريب أنك ستجد نشاطا إسرائيليا موازيا ويصب فى ذات الهدف! والخلاصة أن الموقف أصبح معقدًا فى وجه "المعارضة العلمانية" وذلك للآتى: - اقتراب فشل نظرائهم فى "تركيا": وقد انزلقوا لاستدعاء الموقف التركى باعتباره زخما مساندا لهم، ولكن "أردوغان" تعامل مع الموقف بقوة، والمتوقع زيادة شعبيته وخروجه منتصرًا من المعركة، مما سيعطى ظلالا على ذات المعركة بأطرافها المصرية. - التحرك السياسى الرصين للرئاسة؛ بظهوره الواثق واتخاذه قرارات جوهرية مثل قرار قطع العلاقات مع "سوريا بشار"، وقرار تعيين المحافظين الجدد؛ مما يُصدّر رسائل الثبات والثقة للداخل والخارج. - ارتباك الموقف الأمريكى، بين(أمل) فى "سلطة علمانية" متعاونة، و(خوف) من فقدان علاقة طبيعية مع السلطة القائمة، سيما وأن ممثلى الإدارة الأمريكية قد أعلنوا مرارًا عن تخوفهم من ضعف الوجود الشعبى "للمعارضة العلمانية"، وأن التأسيس على الغضب الجماهيرى وحده لا يجدى، لأن تحسين الأوضاع يجعل المعارضة عارية من جديد، ويضع "واشنطن" فى موقف حرج تجاه السلطة الشرعية، ويؤكد فشلها المتكرر فى التعامل مع القضايا الشرق أوسطية. - العمل السياسى المتميز لحزب الحرية والعدالة، ونجاحه فى توصيل الصورة الصحيحة للأحزاب الإسلامية، وكسب تأييدها، ورغم التباين فى تقدير حالة نجاح "الرئيس" عند هذه الأحزاب، إلا أنهم اجتمعوا -فى النهاية- على هدف (صد العدوان عن الشرعية)، وظهروا بمظهر متماسك، ودشنوا تحركات متوازنة، خرجت بالمشهد من صورة "تظاهر الشعب ضد الحاكم المستبد" وهى الصورة التى عمل الإعلام بقوة على تشكيلها... إلى صورة "حراك سياسى محتقن بين مؤيدى الرئيس ومعارضيه".. وهذه نقلة نوعية قبل 30/6 تفقد "المعارضة" بسببها أهم ركائز الصورة الذهنية لهذا اليوم وهى اعتباره (ثورة الشعب على الرئيس).. تأتى هذه الإخفاقات بعد نجاحات إعلامية "للمعارضة" كادت تؤثر على عقلاء الأمة، لدرجة أن كاتبًا كبيرًا مثل "فهمى هويدى"، يكتب يائسًا عن هذا اليوم، ويطالب "الرئيس" بتنازلات (مثلما طالبوه قبل 25 يناير الماضى) لحماية الوطن، رغم أن كاتبنا الكبير هو الذى أثبت قبل ذلك أنه مهما فعل "الرئيس" فلن ترضى عنه "المعارضة العلمانية"!! كانت هذه الكتابات الخائفة تمثل شكلًا من أشكال انتصار المعارضة فى منح المشهد صورة كئيبة عن المستقبل ما لم يذعن الرئيس لمطالب المعارضة. وفى المقابل ستجد أقلاما خبيرة لم تهتز لدرجة أن ترى كاتبًا كبيرا مثل "وائل قنديل" يعلن فى برنامجه ب"الجزيرة": (أن مظاهرات 30/6 هى فى النهاية مظاهرات الثورة المضادة والحكم البائد ضد ثورة 25 يناير). وما قاله "قنديل" هو نفس النتيجة التى بدأ بها حزب الحرية والعدالة معركة الدفاع عن الشرعية، ولكن الكلام من رجل محسوب على "العلمانية السياسية" تختلف عن كلام الإسلاميين تأثيرًا، لا سيما أنه من رجال الثورة وأبنائها. أحداث العنف والبلطجة التى صاحبت دخول المحافظين الجدد مكاتبهم كانت سقطة كبيرة كرست بها المعارضة الصورة الهمجية التى تعتزمها فى 30/6؛ مما يؤكد أن المواطن العادى (غير المسيس) لن ينزل معهم مهما كان غضبه من نقص الخدمات، وستقتصر الفعاليات على بعض المسيسين والبلطجية كما كانت أحداث "الاتحادية"، وبالتالى فهى محكوم عليها بالفشل. ورغم أن مقالنا هذا يُكتب قبل مليونية 21/6 إلا أن تداعياتها السياسية بدأت قبل حدوثها، حيث يمكنك الإحساس بسخونة الاستعدادات من ارتباك الخطاب الإعلامى التحريضى، ومن حرص الإسلاميين على إرسال رسالة قوية ونهائية إلى الداخل والخارج، بأن أنصار "الرئيس" ما زالوا يمثلون القوة الشعبية الحقيقية التى يعتد بها. إن مرور الأيام يفقد المعارضة "الوهم" الذى صدّروه للداخل وحاولوا تصديره للخارج.. (بأنهم قادمون). ويبدو أنهم يصنعون بداية مقلقة لمستقبلهم... بينما يصنع "الرئيس" وأنصاره مستقبلًا مطمئنًا للوطن.