لقد أدرك الغرب القوة الحقيقية لمصر ومكانتها فى المنطقة، وأنها المعقل والقاعدة التى انطلق منها القائدان صلاح الدين الأيوبى وسيف الدين قطز لدحر الغزاة من الصليبيين والتتار، واقتنعوا بأن بقاءهم فى الشرق يرتبط ارتباطا جوهريا بالقضاء على قوة مصر وإخضاعها، واعتبروا الطريق إلى القدس يبدأ من القاهرة. فهاهم الصليبيون يوجهون ثلاث حملات صليبية من أصل سبع حملات إلى القدس، وبقية الحملات الصليبية من الرابعة إلى السابعة تم توجيهها إلى مصر؛ لأنهم أدركوا بعد الحملات الثلاث الأولى أن السيطرة على فلسطين واستقرار الإمارات الصليبية فى بلاد الشام مرهونة بالسيطرة على مصر وإخضاعها بعد الهزائم المذلة التى تعرضوا لها على يد الجيش المصرى بقيادة البطل صلاح الدين الأيوبى. وعندما جاء التتار الذين دمروا الأخضر واليابس وأحرقوا وأبادوا كل شىء فى طريقهم وأسقطوا عاصمة الخلافة الإسلامية العباسية فى بغداد، وقتلوا الخليفة العباسى وقتلوا معه مئات الألوف من المسلمين، وأحرقوا مكتبة بغداد بما فيها من أمهات الكتب التى تدل على حضارة عظيمة وسيطروا على نصف العالم تقريبا بالقتل والدمار والخراب؛ فكان وقف هذا الزحف المدنس على يد الجيش المصرى البطل بقيادة الأسد المظفر سيف الدين قطز 1260م فى عين جالوت، فاندحر التتار وعادت للإسلام عزته ومكانته من مصر قلب العروبة والإسلام. وأدرك الصحابى الجليل سيدنا عمرو بن العاص أهمية مصر بدراسته أحوال البلاد والعباد فى عهد الخليفة الراشد العادل عمر بن الخطاب- أدرك أن فتح مصر سيكون عونا وقوة للمسلمين، وأن حماية الفتح الإسلامى فى فلسطين واستقرار الحكم الإسلامى فى بلاد الشام كله مرهون بفتح مصر ودخولها فى الإسلام. إن مصر التى أطلق عليها العلامة بن خلدون (مصر المحروسة) قامت بمهمتين أساسيتين فى التاريخ الإسلامى: الأولى أنها شكلت قاعدة للانطلاق الإسلامى نحو الغرب عبر الشمال الإفريقى ثم إلى الأندلس، وكانت قاعدة لانطلاق الإسلام فى إفريقيا كلها. الثانية أنها شكلت قاعدة للصد وحماية الوجود الإسلامى والهوية الإسلامية بالتصدى للغزاة القادمين من الغرب ممثلين فى الصليبيين والقادمين من الشرق ممثلين فى التتار، وظلت كذلك حتى بدايات القرن التاسع عشر. إن الغرب الحاقد على الإسلام والشعوب الإسلامية لم يستطع أن يزرع الكيان الصهيونى الغاصب فى أرض فلسطين الحبيبة إلا بعد احتلال مصر والسيطرة عليها عام 1882 فبدأت بعد ذلك التاريخ الهجرات الصهيونية لأرض فلسطين حتى وعد بلفور اللعين عام 1917، وبعدها تزايدت الهجرات بشكل كبير ومتسارع.. وها هو الشهيد البطل (أحمد عبد العزيز) الذى استشهد فى حرب فلسطين عام 1948 يدرك هذا الأمر فيقول رحمه الله وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة "إن ميدان الجهاد الحقيقى فى مصر وليس هنا" يقصد فلسطين.. ويقول التاريخ أيضا إن الكيان الصهيونى الغاصب لم يطمئن فى هذه المنطقة إلا بعد أن خرجت مصر من الصراع العربى الإسرائيلى نهائيا بعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، بل إن الكيان الغاصب لم يكن يستطيع أن يشن حربا فى المنطقة بعد هذه الاتفاقية إلا بعد الاطمئنان لموقف النظام الحاكم فى مصر وآخرها (قرار العار) بالحرب على الأشقاء فى غزة الذى اتخذ من مصر فى نهايات عام 2008 لدرجة جعلت قادة الصهاينة يطلقون على الرئيس المخلوع (الكنز الإستراتيجى) فأى عار هذا الذى لحق بالوطن والأمة؟ وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير التى أنعم الله بها علينا فمحت العار عنا جميعا بسقوط الكنز الإستراتيجى وأتباعه فى مصر بدأت النظرة تتغير، خصوصا بعد أن وصل إلى الحكم رئيس جمهورية ينتمى إلى فئة المجاهدين الذين جاهدوا ضد الصهاينة وقضُوا مضاجعهم على أرض فلسطين عام 1948، فمثل ذلك تهديدا كبيرا للغرب والصهاينة على النحو الذى جعل السيناتور الأمريكى (جون ماكين) يقول: (إن الثورة المصرية هى الحدث الأبرز فى التاريخ الحديث منذ سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924)، فهم يدركون خطورة التغيير الذى حدث فى مصر على مستقبلهم وسيادتهم؛ لأن مصر إذا قامت قادت الأمة كلها فتجمع الغرب وأمريكا والصهاينة من كل صوب وحدب وكرسوا كل إمكاناتهم وأموالهم وأموال أعوانهم من أجل إسقاط وإجهاض المشروع الوليد فى مصر لدرجة أن الأموال التى أُنفقت على تمويل العنف فقط بلغت 6 مليارات دولار.. ومن هنا نفهم طبيعة المعركة وشراستها فبعد سقوط العراق وما يحدث فى سوريا وسيطرة أمريكا على دول الخليج أصبحت مصر هى آخر القلاع التى تقف ضد سيطرتهم وأطماعهم بعد انتخاب نظام جاء بإرادة الشعب؛ فإذا سقطت مصر ولن تسقط بحول الله وقوته سقطت الأمة وهم يعلمون ذلك جيدا.. إن الغرض الحقيقى لما يحدث الآن هو إسقاط الدولة.. والتاريخ يقول لنا إن مصر عندما تكون آخر القلاع فإنها تنتصر بحول الله وقوته وينتصر معها العالم العربى والإسلامى.. حدث ذلك فى حطين على يد صلاح الدين، وفى عين جالوت على يد المظفر سيف الدين قطز بعد أن أسقط التتار جُل العالم الاسلامى وعاصمة الخلافة فلم تبق إلا مصر فقهرتهم وردتهم، وحدث ذلك أيضا فى حرب العاشر من رمضان المجيدة عام 1973. إنهم يحاولون هدم آخر القلاع ولن يفلحوا وستنتصر مصر بإسلامها وشعبها وشرفائها وكل المخلصين من أبنائها لتستعيد الأمة مجدها وريادتها وحضارتها من جديد (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).