كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستقبل شهر شعبان بالفرح والسرور، ويدعو الله، فيقول: "اللهم بلغنا رمضان"، لأن شعبان يقربنا من شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، ويكثر من الصيام فى شعبان بما لا يكثر فى غيره من شهور العام، حتى روى البخارى ومسلم بسنديهما عن عائشة -رضى الله عنها- واللفظ لمسلم: "كان رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يصوم حتى نقول: لا يُفطرُ، ويفطرُ حتى نقولَ: لا يصومُ، وما رأيتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- استكمل صيامَ شهرٍ قطُّ إلا رمضانَ، وما رأيتُه فى شهرٍ أكثرَ منه صيامًا فى شعبانَ". وهى تهيئة إيمانية قلبية للاستعداد لشهر رمضان، فصار شعبان كأنه نافلة رمضان، كما يتهيأ المسلمون بالنوافل لصلاة الفريضة، أما إخواننا فى جبهة الخراب فهم يستعدون فى آخر شعبان بحملة اسمها "تمرد"، ولعل أحسن ما كُتب عن هذه الحملة على "فيس بوك": إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا والآن كيف نستعد لرمضان فى أنفسنا إيمانيا لمواجهة الهوى والشيطان، وسياسيا لمواجهة التمرد والعصيان، أما الاستعداد إيمانيا فقد خلق الله الإنسان فى أحسن تقويم، ثم رده إلى أسفل سافلين، ووضع الإنسان فى اختبار قال عنه سبحانه: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) (الإنسان:2)، وقال سبحانه: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد:10)، فالإنسان خلقه الله من طين، ونفخ فيه الروح، وميّزه عن سائر المخلوقات بالعقل، فمثَّل الطينَ الهوى، ومثلت الفطرة الروح، وصار الإنسان بين هوى يشده إلى الأرض بطينها ووحلها: (أَخْلَدَ إلى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) (الأعراف: من الآية: 176)، وصارت الفطرة تشده إلى أعلى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: من الآية: 30)، والعقل يفكر ويقدر، وينظر ويدبر، ويختار ما بين إجابة الهوى، أو الاستجابة لنداء الفطرة، وليس كل الهوى حراما، فهوى الإنسان أن يأكل ليعيش ويقوى للعبادة، لا ليأكل مال اليتيم وكسرة الفقير، وهوى الإنسان فى النكاح أن يتناسل ويبقى النوع الإنسانى على الأرض، لا ليهتك الأعراض وتختلط الأنساب، وهوى الإنسان أن يتكلم الكلام ليقول الحق، ويصلح بين الناس لا الكذب والبهتان، وهوى الإنسان أن يغضب لنصرة الحق لا اندفاعا نحو الظلم والطغيان، وجاء الشيطان ليلتحم بالهوى، فيزيده إسرافا وبدارا نحو الشر من الإنسان إضرارا بنفسه قبل أسرته ومجتمعه وعالمه، فأدركته عناية الرحمن، وأنزل الله القرآن وفرض شعيرة الصيام، ليعود للإنسان الميزان، ويعين عقله على الترجيح بين نداء الفطرة وأوامر الرحمن، فى مواجهة إغواء الهوى والشيطان، فصار الصيام ركنا أساسيا فى توازن الإنسان، وتغيير ما بالنفس أولا، ثم الأسرة والمجتمع والأمة بعدها ومعها؛ كى يصدر الإنسان فى أفكاره وأفعاله وأقواله عن عابد لله عز وجل، خليفة لله فى أرضه، داعيا إلى الحق، آمرا بالعدل، ناشرا للبر، متحركا بنور الله كما قال سبحانه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فِى النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122). وهنا يجب أن نتوقف أمام خصائص أنفسنا التى خلقها الله تعالى وركَّب فيها شهوات أربعا قوية؛ هى: "البطن والفرج والكلام والغضب"، وفرض الله الصيام ليكون -مع بقية العبادات- آلية التغيير الإيمانية العملية فى الفرد والأسرة والمجتمع والأمة، ووضع ربنا لذلك سننًا وفرائض عملية؛ لتعين الإنسان على نفسه إصلاحا وتغييرا، وتقويما وتحسينا، فإذا ما جد بالإنسان السير إلى الله، واعتبر الصيام شعيرة تحبها النفس، ويعظمها القلب كما قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32)، فإن الإنسان من أول شعبان سوف يهرع إلى الصيام بالنهار، والقيام بالليل نافلة قبل رمضان، ويضاعف ذلك الإيمان فى رمضان ارتقاء طبيعيا، ويستمر بعد رمضان فى برامجه الإيمانية من صيام وقيام، وذكر وقراءة للقرآن، وبذل وإنفاق فى سبيل الله، وعمارة لبيوت الله، ويظل هذا أدبه ودأبه حتى يأتى قدر الله كما قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99)، فإذا جاء اليقين فإما باب الريان لا يدخله إلا أصحاب الإيمان من الصائمين، وتلك منازل أصحاب اليمين، أما منازل الصديقين والمقربين فلهم مقامات أعلى وأرقى وأسنى نستشف ذلك من دليل الإشارة فى الحديث النبوى، الذى رواه البخارى بسنده أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال فيما يرويه عن ربه: "الصوم لى وأنا أجزى به"، فإن كان الصوم له سبحانه، وهو يجزى به فهناك حقا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ومن هنا وجب الاستعداد من شعبان قبل الميعاد فى رمضان، فلا ندع القلوب فى صدأ وغفلة، وقسوة وظلمة، فيأتى رمضان وقد صعب على صفحاته أن تستقبل نفحات الرحمة والمغفرة والعتق من النيران. أما التهيئة السياسية أمام دعوات التمرد قبل رمضان بأيام -وتلك مظنة الفشل الذريع بإذن الله- فمن باب "اعقلها وتوكل"، لا أجد خيرا مما كتبه أخى المهندس العالم الشرعى السلفى، عضو الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، وعضو لجنة الفقه والقضايا المعاصرة بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية الدكتور هشام برغش، حيث ساق نصا لهذا الاستعداد السياسى لمواجهة ما يسمى حملة تمرد يوم 30 يونيو الموافق 21 شعبان فقال: "مهام عاجلة للخروج من فتنة 30 /6: أولا: الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل أن يقى أهل مصر من هذه الفتنة، وأن يكفينا شر الأشرار، وكيد الفجار، وأن يجعل كيدهم فى نحورهم، وأن يحقن دماء المصريين عامة، والمسلمين خاصة، وأن نتواصى بذلك فى ساعات الإجابة ومظانها، وأن يكون هذا سلوكا عاما لكل المخلصين. ولعل حشد الأمة إلى هذا السلاح فى الفترة المقبلة خاصة من خلال القنوت فى المساجد يكون مما يفعِّل هذا السلاح. ثانيًا: على أهل العلم فى جميع أنحاء العالم الإسلامى فى المؤسسات الرسمية كافة، والهيئات الرسمية والأهلية والمجامع الفقهية والشخصيات الاعتبارية، وغيرها، أن يقوموا بواجبهم فى التحذير ممن يسعون إلى إثارة هذه الفتنة، والداعين إليها، والتحذير من إعانتهم بأى وسيلة سواء إعلامية أو غير ذلك ولو بكلمة، وأن كل قطرة دم أو إفساد ينشأ عنها؛ فإنهم يتحملون جميعًا وزرها وإثمها هُم ومَن أعانهم بأى وسيلة، وأن يكون ذلك من خلال جميع المناشط الدعوية والمنابر ووسائل الإعلام المختلفة. ثالثًا: على جميع قيادات العمل الإسلامى فى مصر من الفصائل الدعوية كافة، أن يدركوا خطورة تفرقهم وتنابزهم، وأن يقدموا مصلحة الأمة الكلية، وحقن دماء أبنائها على المصالح الجزئية والمكاسب الآنية. وعلى جميع هذه القيادات أن يدركوا أنهم واقفون أمام الله عز وجل فرادى، وأنهم مسئولون عن تقصيرهم وتنازعهم، وتقديمهم حظوظ أنفسهم على واجبات أمتهم. وعليهم مراعاة أن تكون تصريحاتهم قوية وواضحة فى رفض هذه الفتنة والتحذير منها، وأن يكونوا حذرين فى تصريحاتهم إلى وسائل الإعلام حتى لا يستغل هؤلاء تصريحاتهم فى إضفاء الشرعية على هذه الفتنة. رابعًا: على جميع قادة الأحزاب الإسلامية والوطنية أن تكون لهم مواقف واضحة ورفض صريح تام لمحاولات القرصنة التى تدشن لها الأحزاب العلمانية ورموزها، مستغلة تبعية أكثر القنوات الإعلامية لأصحاب تلك الدعوات، وعلى هذه القيادات أن تبادر إلى عقد اجتماعات جادة ومنتظمة، وأن تنسق بينها حتى يمكنها إنقاذ البلاد من النفق المظلم الذى يحاول أصحاب هذه الدعوة دفعها إليه. خامسًا: على قادة ورموز العمل الإسلامى والسياسى والوطنى تهيئة أنفسهم وأنصارهم ومحبيهم من جميع المخلصين من أبناء هذا الوطن إلى أن يكونوا على أتم استعداد للخيارات كافة، إذا استدعى الأمر ذلك، وكان هناك خطر يتهدد الوطن واستقراره. سادساً: على الفضائيات الإسلامية والمواقع الإسلامية وأصحاب الصفحات الكبرى على مواقع التواصل الاجتماعى فى هذه المرحلة، أن يعطوا هذه المسألة أولوية كبرى من برامجهم ومشاركاتهم واهتماماتهم. سابعًا: على الحكومة والرئاسة أن تنتبه إلى خطورة تفاقم الأوضاع المعيشية والأمنية، سواء كانت مفتعلة أو مقصودة؛ لأنه يتم من خلالها تهيئة الجماهير إلى أن السبيل الأوحد لتجاوز هذه الأزمات هو الخروج فى هذه الفتنة؛ فعليها أن تبذل قصارى جهدها لعلاج هذه المشكلات، ومنع تفاقمها ومحاسبة وفضح المتواطئين فيها. ثامنًا: على أهل العلم والخطباء والأئمة أن يقوموا بدورهم فى مناصحة رجال الشرطة والجيش، بأن تخليهم عن واجبهم فى حفظ الأمن وحقن الدماء ومواجهة المفسدين هو خيانة لله عز وجل ولأماناتهم، وأن يكون قيامهم بهذا الدور المنوط بهم من غير بغى أو عدوان. تاسعا: التفاؤل والثقة بالله عز وجل، وأنه سبحانه لن يخذل عباده، وأنه سبحانه لا يصلح عمل المفسدين، وبث الأمل فى نفوس الناس، وأنه سيكون -بإذن الله- يوم انكسار للشر وأهله، ويوم عزة للحق وجنده. هذه بعض خطوات أراها مهمة لمواجهة هذه الفتنة التى يراد إدخال البلاد والعباد فى شرها، والله أسأل أن يقمع أهلها وأن يكفى المسلمين شره". أسأل الله تبارك وتعالى أن يأخذ بمجامع قلوبنا، وأهداب نفوسنا إلى ما يحبه ربنا ويرضى من خلال بوابة التقوى، وهى ثمرة الصيام كما قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: من الآية: 183)، وقال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر:54-55)، كما نتضرع إليه سبحانه أن يحفظ بنا مصرنا من تمرد المتمردين، وكيد الخائنين، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: من الآية: 21). وغدا نبتسم مرات، واحدة عندما يفشلون، وثانية وثالثة عندما نستقبل رمضان ونفرح مرتين، لما رواه مسلم بسنده عن أبى هريرة أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه".