التركى الأسود هو رجب طيب أردوغان الأبيض حينما كان أردوغان رئيسا لبلدية إسطنبول، قال فى خطاب لمؤيديه فى أكتوبر 1998: "يوجد فى هذا البلد فصل بين الأتراك البيض والأتراك السود، وأخوكم طيب هو واحد من الأتراك السود"، وبعد أن أصبح أردوغان رئيسا وصف نفسه فى 11 مايو 2003 بالتركى الأسود. الأتراك البيض هم الطبقة الراقية العلمانية التى أمسكت بالسلطة لعقود، أما الأتراك السود كما ينظر إليهم من أعلى (بدونية): فهم الفقراء المسلمون الملتزمون الذين ولدوا فى الريف وعاشوا به. يؤمن التركى الأسود بالديمقراطية، بينما يمارس التركى الأبيض الاستبداد، على الرغم من أن تركيا طوال سنوات وجودهم على رأس السلطة كانت فى القاع وكان شعبها يحتضر فقرا. ولد طيب أردوغان فى قاسم باشا الفقيرة لأب بحار بسيط فقير، وباع السميد والبطيخ فى مقتبل حياته ولعب وسط مهاجم فى فنار بخشة، قبل أن يصبح السياسى الأبرز فى التاريخ التركى وفى أوروبا وصعد إلى رأس السلطة بسرعة التوماهوك كروز. بعد ثلاث سنوات من حكمه بلغ الناتج القومى لتركيا 400 مليار دولار، متفوقا على اقتصاد بلجيكا وسويسرا والسويد. يتعامل أردوغان مع أحداث الشغب التى تشهدها بلاده بثقة عالية نظرا لشعبيته الهائلة، فهو لم يدخل انتخابات إلا وخرج منها فائزا بنتائج أفضل من سابقاتها: فى 2002، حصل على 34% من الأصوات، وفى 2007 حصل على 47% وفى 2011 حصل على 50%، لكن الصناديق ليست هى كل شىء لدى حزب (الفاشلين) البيض، حزب الشعب الجمهورى الكمالى الذى يقود التظاهرات فى ميدان تقسيم، تحرك أنصاره روائح الخمور التى تم تقنين بيعها. راهن أردوغان على الاقتصاد لكسب رضا الجماهير وإنهاء كل معاركه بالضربة القاضية، لكن النجاح والشعبية ليس هما المقياس أيضا لدى أبناء أتاتورك؛ لأن الأيديولوجية تطغى على الحركة والسلوك: إذا لم أستطع المنافسة فلا مفر عن نشر الفوضى. إشكالية ميدان تقسيم هى توابع النجاحات التى يحققها أردوغان وآخرها سلسلة مشاريع عملاقة فى إسطنبول، بينها جسر ثالث على البوسفور، ومطار يفترض أن يكون الأكبر فى العالم، التى تطلبت إزالة حديقة صغيرة تضم ستمائة شجرة، ليقام محلها مبنى على شكل ثكنة عسكرية على الطراز العثمانى، يضم مركزا ثقافيا ومركزا تجاريا، وجعل ساحة تقسيم منطقة مشاة ووقف حركة السيارات لتخفيف التلوث بعد أن تم حفر أنفاق لعبورها. القضية إذن مرتبطة بالنجاحات، والفوضويون حتى فى تركيا لا يحتاجون إلى مبررات ليقذفوا المولوتوف، وقديما قال أردوغان بعد أن سجنوه: "سوف تعاقبوننى أيضا فى المستقبل ولو قرأت رقم سيارة وليس أبياتا من الشعر.. كذلك الصحافة الأمريكية لا تحتاج إلى مبررات لتشبه تقسيم بميدان التحرير، فأردوغان الذى على مشارف الرئاسة أصبح صداعا مزمنا. حضرت ذات مرة إحدى فعاليات مقاومة الصهيونية، ورأيت يساريين من كل دول العالم ولاحظت أن بينهما رباطا وتواصلا أصبح يتضح أكثر فى فعالياتهم فى كل دولة تصطدم فيها العلمانية مع التيارات الإسلامية أو المحافظة. ربما يحاول البعض استبدال نظرية صامويل هنتنجتون فى صراح الحضارات على المستوى العالمى بصراع التيارات على المستوى القطرى، يتحرك بتخطيط ناعم للرأسمالية التى يهاجمها صباحا ويقتات على طفحها فى الظلام. يعتقد البعض الآخر أن الأتراك البيض يحاولون استنساخ تجربة بلاك بلوك والمعارضة الدموية فى مصر وتونس بنموذج تركى.. الحقيقة أن العكس هو الصحيح، فلم تتوقف محاولات إعاقة أردوغان بالفتن والاضطرابات طوال عشر سنوات، لكن إنجازاته على الأرض التى تشبه الإعجاز خففت الوطأة وطمست المعالم الكاملة للأوضاع بالبعد الإيجابى فقط، لكن المؤامرات أبدا لم تتوقف، وهو أيضا لم يتوقف عن النجاح.