ضرب الإخوان المسلمون أروع الأمثلة فى الثبات على المبادئ والصبر فى الشدائد حتى اليوم، بالرغم من كثرة الخطوب التى مُنِيت بها، والعواصف التى مرَّت بها، فما لانت لهم قناة ولا وهنت، وما زادتهم إلا إيمانًا وتثبيتًا، فمرورًا بتضييق الحكومات المصرية على الإخوان التى صادرت صحفهم ومجلاتهم، وأغلقت شُعَبهم وفضَّت اجتماعاتهم بالقوة، ونفت الأعضاء، وحاولت تشويه صورة الدعوة، إلى تدخل القوى الدولية فى محاولة القضاء على الجماعة كلها مرات حتى وصل الأمر إلى اغتيال قائدها ومرشدها الإمام حَسَن البَنَّا فى فبراير 1949م، وتحويلهم إلى المحاكمات العسكرية، وتلفيق التُّهَم فى زمن الثورة، وتعليق مجموعة من خِيرة الإخوان على أعواد المشانق، فضلا عمَّن استُشْهِد تحت سياط التعذيب. وكان لإعدادهم السابق الأثر الكبير فى ثباتهم، وكيف لا والثبات ركن من أركان بيعتهم؟، يقول الإمام الشَّهِيد فى رسالة (التعاليم): "وأريد بالثَّبَات أن يظلّ الأخ عاملا مجاهدًا فى سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام، حتى يلقى الله على ذلك، وقد فاز بإحدى الحُسْنَيين: فإما الغاية، وإما الشهادة فى النهاية (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) (الأحزاب: 23)، والوقت عندنا جزء من العلاج، والطريق طويلة المدى بعيدة المراحل كثيرة العقبات، وكلها وحدها التى تؤدى إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة". لقد أراد الإمام البنَّا من الإخوان الاستمرار والدوام على العمل فى سبيل الله طلبًا لرضاه، بل السعى الدءوب والمجاهدة من أجل التمكين لدين الله تعالى فى الأرض مهما طال العمر وبعدت الشُّقَّة، وتتابعت الخطوب حتى يلقى الإخوان المسلمون الله تعالى، وقد فازوا بإحدى الحسنيين: إما تحقيق الغاية أو الشهادة. فى نهاية 1948م، وفى الفترة التى قضاها قبل استشهاده فى فبراير 1949م.. كان كل هدف الإمام البنَّا هو إخراج المعتقلين، فتركَّزت كل جهوده ومساعيه حول تحقيق الهدف. لقد بلغت المأساة فى ضميره ذروتها.. مأساة البيوت التى فقدت من يعولها وفقدت الأمن والسعادة والطمأنينة.. لن يستريح باله ولن تقرّ نفسه المعذَّبة ولن يهدأ قلبه الأسيف الحزين، ولن يتوقف ما يسمعه من صراخ أطفال المعتقلين يُدَوِّى فى أذنيه؛ حتى يرى آباءهم قد أُفْرِج عنهم وعادوا سالمين إلى بيوتهم.. هكذا يروى عن حاله فى الفترة المظلمة من تاريخ مصر. قالوا له: لقد اعتقلوهم جميعًا وتركوك!! فما الحكمة؟ إنه من الخير أن تخرج إلى سوريا أو الحجاز أو باكستان فرفض وقال: هذا هو الجُبْن، كيف أترك هؤلاء فى المعتقلات ولا أسعى لإخراجهم؟!. وكتب له الإخوان من المعتقل يقولون: دَعْك من أمرنا، وخُذْ الطريق التى تراها، لكنه أصرَّ على أن يخرج هؤلاء حتى يستريح. وقال له بعض المتحمسين: ألا ترى أنهم قد حاربونا أعنف الحرب، فحطموا بناء عشرين عامًا.. صودرت الأموال، وحلَّت الشركات، وأغلقت الشُّعَب والمركز العام، واعتقل الإخوان بالآلاف، أليس هذا موعد الآية (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الأنبياء: 39). لقد كان فى استطاعته أن يعلنها حربًا ويشعلها نارًا تحرق الطغاة والظلمة والعملاء، وكان لديه من القوة ما يمكنه من دكِّ بنيانهم من القواعد، ولكن بماذا أجاب هؤلاء المتحمسين؟ قال: "لن أكون داعية فتنة، ولن آمر بمنكر، ولن أغضب لشخصى، ولن أنتقم لنفسى"، ولما سمع بمقتل النقراشى جزع وأسف. يقول شاعر المحنة الدكتور يوسف القرضاوى فى نونيته الشهيرة التى نظمها وهو سجين بين جدران السجن الحربى مصورًا التعذيب والأهوال التى لاقاها الإخوان فى سجون مصر، مشيرًا إلى استعلائهم وثباتهم على الإيمان: وهذا سيد قطب عملاق فى محكمة الأقزام: لقد زخر التاريخ الإسلامى الحديث بقيم إسلامية عديدة برزت أسماؤها فى ميادين مختلفة ومواطن شتَّى، ففى ساحات الجهاد كانت لنا مآثر وبطولات، وفى ساحات العلم والفكر كانت لنا صولات وجولات، وفى ميادين الدعوة والعمل كانت لنا عطاءات، وعلى أعواد المشانق سَمَت لنا هامات.. فمن عمر المختار إلى سَيِّد قُطْب، ومن جلاد إلى جلاد تعدَّدت الأسماء والمسميات والمواقف واحدة والبطولات متشابهة. نعم لقد جدَّد الشَّهِيد الخَالد سيِّد قُطْب فى الأمة معانى التَّضْحية والثَّبات على المبدأ، وبعث فيها روح العِزَّة والكرامة الإسلامية. إن لسيد قطب مواقف ومحطات كثيرة تتجلَّى فيها أروع معانى الثبات، ولكننا نقطف من ذلك كله مواقفه الخالدة فى سجنه.. أوذى سيد قطب هو وعائلته فى محن كثيرة أعظمها محنة 1965م تلك التى أوذى فيها سيد قُطب إيذاءً رهيبًا؛ حيث اعتُقِلَ وحُقِّق معه مطولا وعُذِّبَ تعذيبًا رهيبًا، وحوكم محاكمة ظالمة، ثم حُكِم عليه بالإعدام. كان سيِّد فى سجنه ظاهرة عجيبة حقًّا: فهو لم يَنْزَوِ على نفسه، ولم تشغله همومه ومتابعه وأمراضه وآلامه، ولم يجلس وحده قلقا بائسا معذبا.. لقد استعلى على كل ما يواجهه بإيمانه وصبر على ذلك البلاء، ورضى بذلك القضاء. لقد جمع فى سجنه بين التأمُّل والتدبُّر والبحث والتفكير والعمل والدعوة، فصار فى سجنه يكتب الكتب، ويُعِدّ الأبحاث الجادة، وأصدر أهم كتبه التى صار بها رائد الفكر الإسلامى المعاصر، وهو كتاب (فى ظلال القرآن)، وغيرها من الكتب الأخرى، مثل: (المستقبل لهذا الدين)، و(خصائص التصور الإسلامى)، و(الإسلام ومشكلات الحضارة)... إلخ. يقول الدكتور الخالدى: "كان سيد قطب عملاقا فى محكمة الأقزام.. كان عملاقا وهو فى قفص الاتهام، بينما الفريق أول الدجوى ومن معه أقزام، كان سيد عملاقا أمام جمال عبد الناصر الذى كان يملك كل مظاهر القوى المادية يملك الجاه والحكم والسلطات، ولكنه كان قزما أمام سيد؛ لأنه فقد اتصاله بالله مالك الملك وواهب القوى". فى يوم من الأيام سأله تلاميذه: لماذا كنت صريحًا كل الصراحة فى المحكمة التى تملك عنقك؟ فقال: لأن التَّوْرية لا تجوز فى العقيدة، ولأنه ليس للقائد أن يأخذ بالرُّخَص. وهكذا تؤسس العقيدة إيمانًا عجيبا فى قلوب أهلها، فهذه أخت سيد قطب "حميدة" تتأثر بمواقف سيِّد، ويدخل الإيمان شِغَاف قلبها، فتقف كالجبال الرواسى رافعة إلى العلياء وهى تردِّد: كان بإمكانى أن أُعْفى من سجن السنوات العشر، لولا أنى أَبَيْت أن أكتم عقيدتى، ورفضت إلا أن أصارح الطواغيت بكفرهم. وجاء أكابر مجرمى مصر كى يمنعوا حكم الإعدام عن سيد قطب بشرط أن يتنازل عن الكفر بالطاغوت، ويطلب طلب استرحام منهم، فهم يريدون أن يفعلوا ذلك ليس حبًّا له، ولكن كى يحكموا على كتاباته بالإعدام. فجاء الردُّ من قلبٍ كان مليئا بالقرآن وعالما بتفسيره ومتأسيا بقصة أصحاب الأخدود التى فسَّرها فى ظلاله، فقد آن الأوان أن يتأسَّى بما كتب لنا ويطبِّقه عمليًّا، لقد صرخ فى وجههم ووجه الجاهلية كلها قائلا: إن إصبع السَّبَّابة الذى يشهد لله بالوحدانية فى الصلاة ليرفض أن يكتب حرفًا واحدًا يُقِرُّ به حكم طاغية. ويكمل سيد كلماته قائلا لهم: لماذا أسترحم؟ إن كنت محكومًا بحق فأنا أرتضى حكم الحق، وإن كنت محكومًا بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل، بينما حبل المشنقة يلوح أمام ناظريه. كانت هناك محاولات استدراج سيد قطب إلى اعتذار يُخفِّف به حكم الإعدام عنه، فجاء حمزة البسيونى الملعون مدير السجن الحربى إلى حميدة قطب وأطلعها على القرار، ثم أردف قائلا: لدينا فرصة واحدة لإنقاذ الأستاذ وهى اعتذاره، وأنا أتعهد بإخراجه بعد ستة أشهر، قالت حميدة: فجئت أخى فذكرت له ذلك، فقال: لن أعتذر عن العمل مع الله تعالى. يقول الدكتور عبد الله عزام: "لقد كان لاستشهاد سيد قطب أثر فى إيقاظ العالم الإسلامى أكثر من حياته، ففى السنة التى استشهد فيها طبع "الظلال" سبع طبعات، بينما لم تتم الطبعة الثانية فى أثناء حياته، ولقد صدق عندما قال: "إن كلماتى ستبقى عرائس من الشموع؛ حتى إذا مِتْنا من أجلها انتفضَت حَيَّة وعاشت بين الأحياء". ويقول سيد قطب رحمه الله: إننى أعتقد أن الصراعات الكبرى لا تحسمها الأسلحة مهما بلغت قوتها، ولكن تحسمها المميزات الحضارية الكامنة فى أطراف الصراع، فلقد كانت الإجابة على ذلك السؤال تُشكِّل بالنسبة لى أهمية خاصة، وعندما يشغلنى البحث عن إجابة لأسئلة من ذلك النوع، فإننى لا أعتقد أننى أُضيِّع الوقت والجهد أو أن ذلك ترف فكرى، فالبحث فى الجوانب الحضارية والثقافية للصراعات لا يَقِلُّ عن دور الجنرالات فى صياغة إستراتيجيات القتال. ببساطة: فإن عقيدة المسلم أغلى على نفسه وأعز من الأهل والدَّار والأبناء والحياة، وهو يُنْجِب الأبناء ويُعِدّهم لحماية العقيدة والدفاع عنها. قد تضعف العقيدة فى نفوس المسلمين زمنا فيتعرضون للهزائم، ثم تعود الأمة فى فترة تالية لتبنى نفسها ثقافيًّا، وتُعيد للعقيدة مكانتها المتميزة فى النفوس. ومن ثَمَّ تحقق الأمة انتصارات كبرى، وهذا ما حدث فى حالة صلاح الدين الأيوبى وتجربة الصِّراع مع الصليبيين، كما حدث فى مواجهة التتار، وفى حالة فتح القسطنطينية. لذلك: فإن الأمة تبدأ رحلتها نحو النَّصر والنهضة عندما تعود للعقيدة مكانتها فى النفوس، وتصبح أغلى على الإنسان من نفسه وولده وماله وأهله، وفى هذه الحالة تتجلَّى قوة الإنسان فى مواجهة كل الخطوب والكوارث، وفى الكثير من الأحيان يعتقد المسلم أنه ليس أمام كارثة أو مصيبة؛ ولذلك تفرح النِّساء باستِشْهادِ أبنائهنّ. والمسلم ليس على شىء حتى يقيم القرآن حياة يحياها، وأخلاقا يطبقها ليكون خلقه القرآن كخلق رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فيُتَرْجِم النصوص سلوكا والأحكام حياة؛ لتقام فى واقع الناس، والذين يحفظون العَشْر من الآيات، ثم يضعونها موضع التنفيذ والتطبيق، ثم ينتقلون إلى عشر أُخَر فيجمعون بين العلم والعمل معا، لا شك أنهم المسلمون الواعون، والمؤمنون العاملون والرجال الصادقون ولو كانوا شعثا غبرا "رُبَّ أشعثَ أغبر لو أقسم على الله لأبرَّه"، ورُبّ عالم لا يعمل بعمله فَيُضِلُّه الله على علم. لذلك ولكى نحقق رسالتنا، ويكون القرآن دستورنا، والرسول قدوتنا؛ لا بد أن نتخلَّق بأخلاق القرآن، ونسير على نهجه، ونضع المفاهيم موضع التنفيذ، ونكون صورة صادقة لما ندعو إليه، فنقيم دولة الإسلام فى نفوسنا أولا فتقوم على أرضنا باستجابة الناس لنا لما يرونه من صدق ما ندعوهم إليه، ألا ترى أن القرآن قدَّم لنا الإيمان كما –رأيت– حياة حياها الأنبياء والمرسلون قبل رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فلم يقصّ علينا صفاتهم مجردة، ولم يعرض علينا دعوتهم مُنظَّرة، ولم يهتم بتقديم التعاريف والمصطلحات مجرَّدة بقدر ما اهتم بعرض الصفات الأخلاقية والأحكام التطبيقية، والسلوكيات العملية، فعرض علينا حياة نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط وموسى وعيسى عليهم السلام جميعًا، وختم بحياة محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام البررة.