إن الإجبار والعنف والإرغام والقسر كلها أفعال ممقوتة وبغيض صاحبها إذا ما وجهت نحو الآخرين، ولكنها إيجابية ورائعٌ صاحبها إذا ما وُجهت نحو الذات. فإذا أمكنك أن تتحدى ذاتك، وأن تكون عنيدا مع نفسك، وأن تجبرها على ما تريد، وأن ترغمها على الخير والحق والصواب، وأن تساومها للحصول على أى مكسب، وأن تصر على ما تريده منها، وألا تستسلم أو تتراجع عما تقرره، وألا ترضخ لمطالبها وإلحاحها، وألا تتراجع عن المساحات التى اكتسبتها منها، وأن تتحصل عنوة على ما تريده منها، فستكون حينئذ لديك القدرة على تحدى ذاتك فعلا. إن تحدى الذات وإجبارها على الخير والحق؛ هو أعظم مشروع نفسى تخدم به ذاتك على الإطلاق، وفيه فليتنافس المتنافسون، فهو طريق التطور، وبداية التغيير وأصله، ومحور التحكم فى الذات، وبه لن يكون غدا كاليوم ولا اليوم كالأمس، ولن يكون تعاملك مع إمكاناتك الشحصية كتعامل الآخرين معها، فالإمكانات الشخصية ليست هى مجال الصراع بين الناس، لأنها محض عطاء من الله، إنما كيفية استثمار تلك الإمكانات هو التحدى الحقيقى، وهو علامة الذكاء الفعلى، فالذكاء ليس فقط أن تفيد من إمكاناتك؛ بل هو أيضا الإفادة من أفكار الأذكياء، فعندما تتعامل مع أحدهم فتفيد من أفكاره؛ وتحقق ما تصبو إليه؛ تكون بذلك أذكى منه، فكم من الأذكياء من يفكر ولا يستثمر، ويتكلم ولا يعمل، ويكسل ولا يجهد، فيبدو متواضع الذكاء. إن كل ما ندفع ثمنه غاليا من معاناتنا لا يمكن أن ننساه، والحصيف هو من يجبر نفسه على المعاناة راغبا قبل أن يتعرض لها فى خضم الحياة راغما، والحياة سلسلة متتالية من الابتلاءات والاختبارات التى نمر بها لنتعلم الدروس؛ ولتستقر فى أذهاننا الفوائد والعبر، ثم نجنى ثمرة المعاناة والكد فرحا وحلاوة، فننسى معاناتنا، ونستهين بما لاقيناه من تعب، فنقبل على المعاناة مرة أخرى حينما تواتينا الظروف، ومع تكرار التعب والمكافأة؛ نستعذب التعب، ونحب المعاناة، فنبحث عن الفرصة المواتية، حتى نغنم بالنتيجة، وننعم بالمكافأة، فالمرأة الحامل تعيش أوقاتا صعبة لا يشعر بها إلاها، وتعانى من الآلام ما لم يتحملها غيرها، وتكون قمة الآلام والمعاناة ساعة الولادة، فقد تشرف على الموت أثناءها، والعجيب أنها بعد فترة تحنُّ إلى الحمل مرة أخرى وتصبو إليه، وكأنها نسيت كل ما كان فيه، فتحدى ذاتك وأجهدها لتنال المكافأة. إن كل فكرة نستغرق فى التفكير فيها، ونرعاها، ونندمج فى تصور كيفية تنفيذها، ونصبر عليها حتى ترى النور، ونجنى من ورائها ثمرة؛ هى بمنزلة جنين مر بمراحل الحمل.. والمعاناة.. والرعاية.. والولادة، أو بمنزلة بذرة مرت بمراحل الحرث.. والزراعة.. والرعاية.. والحصاد، ولن تلد طفلا تقر عينها به إلا من تحمل، ولن يحصد خيرا تستقر حياته به إلا من يزرع، والفكرة جنين ينمو ويولد، ونبتةٌ تكبر وتثمر، ولن يحصد الفرد إلا ما رعاه من أفكار؛ إيجابية كانت أو سلبية، وسوف يظل يفيد مما حصد حتى ينتهى مخزونه، فإذا أردت أن تحتفظ بمخزون فكرى رائع؛ فحاور عالما، أو اسأل خبيرا، أو استمع إلى حكيم؛ فإن المخزون الفكرى لديك قد يتضاعف مرات كثيرة، وكأنك قمت بالدراسة فترات طويلة، فتحدى ذاتك وفكّر وارعى أفكارك. إن الهمة العالية تدفع صاحبها إلى التفكير فى تحقيق ما يراه الناس مستحيلا، فحينما تفكر فلا بأس أن تهيم بخيالك حتى تصل إلى النجوم، ولكن لا تنسى أنك واقف على الأرض، فإن الواقع بعظمته وحداثته كانت كل جزئية فيه ذات يوم حلما صغيرا، وكل الإنجازات العظيمة التى غيرت الحياة كانت فكرة بسيطة، ومعظم المخترعات التى يشهدها الحاضر كان الناس قبل اختراعها يرون أنها مستحيلة، فقط حلّق فى سماء التفكير، ثم انزل به إلى الواقع، حتى تدخل فى مرحلة التفكير الواقعى، فستجد نفسك أنجزت أشياء ما كنت تحلم بإنجازها، وإن لم تكن أنجزت فيكفيك أنك فكرت، ولو قمت بتسجيل ما تفكر فيه دوما، لأصبح لديك سجل حافل بالأفكار، وقد تصل منه ذات يوم إلى فكرة تغير حياتك، أو قد تغير حياة الناس، فأنت لست شيئا صغيرا، ولا تفكيرك ساذجا، فتحدى ذاتك وارفع مستوى طموحك، وتأمَّل أن تغيّر الحياة والواقع. إن تفاعل تحدى الذات مع الحركة ببُعديها؛ بُعد الصواب والخطأ، وبُعد السرعة والبطء، تتمخض عن خمس نتائج رائعة؛ أولها نتيجة اجتماعية: وهى أن تتحرك فى الطريق الصحيح ببطء؛ خير لك من أن تتحرك فى طريق الخطأ بسرعة، فالناس ينسون السرعة التى أنجزت بها عملك، ولكنهم لن ينسوا مدى دقة ما أنجزته. وثانيها نتيجة نفسية: فحينما تكون خطواتك وئيدة ولكنها صحيحة ستشعر بالراحة، وحينما تكون أعمالك دقيقة ولكنها قليلة ستشعر بالسعادة. ثالثها متعة تحقيق الذات؛ فإن من أكثر اللحظات متعة فى الحياة؛ أن تحقق أشياء كانوا يقولون عنك إنك لن تستطيع تحقيقها. رابعها نتيجة عملية؛ فالعمل الجيد ولو كان قليلا خير من الكلام الجيد ولو كان كثيرا، فالذى يعمل كثيرا ليس كالذى يتكلم كثيرا. خامسها: أن الفائز فى النهاية هو من يصبر على المعاناة، والصبر على تحدى الذات فيه معاناة؛ ولكنه من أكثر الأسلحة الفعالة لترويض النفس، وقيادة البشر، فتحدى ذاتك، وامش الهوينى؛ تملك إعجاب الناس وثناءهم. إن تحدى الذات سر النجاح ومناط تحقيق الأمل، والناس فريقان؛ يرى فريق منهم أن الوصول إلى آماله وتحقيق أحلامه أمر صعب، ونرى نحن بأعيننا فريقا آخر حقق أحلامه ووصل إلى ما تمنى، وقد يكمن الفرق بين الفريقين أن أحدهما يعرف كيفية تحقيق أمله، واعتقد الآخر فى استحالته، وأن أحدهما حاول أن يعرف الطرق ويختبر الوسائل التى تمكنه من تحقيق ما يصبو إليه، تلك الوسائل التى قد تكون فى متناول الفرد ولكنها فقط محجوبة عن ناظريه، أما الآخر فليست لديه العزيمة القوية والإصرار الكافى للمعرفة أو للوصول إلى ما يريد، أو لاختبار الوسائل، أو للبحث عن حلول، فهو لم ينجح فى تحدى ذاته. فإذا أيقنت أن تحدى الذات هو منبع الخير؛ ونهره الجارى؛ وأرضه الخصبة؛ وثماره اليانعة؛ فهل تستطيع أن تتحدى ذاتك عمليا؟ فإذا أردت ذلك فجرّب أن تفرح بما وهبك الله من نعم فى نفسك وأهلك وحياتك، وأنك لن تسمح بالحزن على شىء ضاع أو فات وقته مهما كانت قيمته، وأنك ستغير الطريقة التى تتحاور بها ما دام أنهم ينتقدونك بشأنها، وأنك ستغير مفاهيمك ومعتقداتك السلبية عن نفسك، وأنك لن تسمح بالشعور بالتعاسة، وأنك لن تستمر فى المشاكل والخصام، وأن أى خلافات ستكون مؤقتة، وأن أسبابها موقفية لا تلبث أن تزول، وأنك لن تسمح بأن تعانى من الألم النفسى، وأنك ستتخلص من الآلام الجسمية ذات الأسباب النفسية، وأنك ستحاول أن تتق الله ما استطعت، وأن تحسن الظن به، وأنك تستطيع أن تحصل على ما تستحقه فى الحياة، وأنك فعلا تستحق الكثير، وأنك ستهيئ لنفسك الجو المفعم بالسعادة كما يليق بك؟ فإنك إن فعلت ذلك أو بعضا منه تكون قد نجحت فعلا فى تحدى الذات.