إذا أردت أن تفقد أى شىء معناه ابتذله، إذا أردت أن تفرغ أى مفهوم من فحواه ابتذله، إذا أردت أن تهدر فكرا ابتذله.. إذا أردت أن تدمر قيمة ابتذلها.. هكذا بدأت خطة الابتذال لإسقاط الثورة . ولم تتم الخطة من أجل إهدار القيم والمفاهيم والرموز فقط، ولكنها ترمى لمغزى أبعد.. إنها تدير العقل بأنواعه، فإما أن يتأثر بفقدان الرمزية، وإما أن يتأثر بكراهية المشهد، وإما بالتخبط فى الفهم وفقدان الحقيقة المطلقة أو ذبذبة المفاهيم أو نسيان الأمر كله وتجاهله والرغبة فى العودة إلى استقرار حتى وإن كان مزيفا، وهذا ما يحدث بالفعل حاليا وفقا لخطة الابتذال . إنها خطة مدبرة وليست عبثا.. تبدأ خيوطها تنسج حول العقول فى خبث ودهاء.. بدأت بابتذال رمز الثورة ميدان التحرير؛ حيث تهافتت الملايين لتحرر قيدها وعقلها ووطنها وولدها من كل غاصب طال ظلمه حتى أظلم القلوب عن رؤية النور.. ثم رأينا فى المكان الطاهر نفسه تنقلب الموازين ويتبدل الثائرون، وترى من كان يساند الظلم سابقا أصبح ثائرا، ومن سخر من الثوار أصبح ثائرا، ومن اتخذ الميدان سبوبة للعيش.. ومن رآه مجالا لإشباع نزواته.. ومن رآه مسرحا لاستنفاد طاقاته الإجرامية؛ حيث المال ثم ضمان النجاة. ومن نماذج الابتذال أيضا ابتذال مفهوم الثورة نفسه، حيث يحمل العنف الممنهج المبرر ويرفض السلمية التى لم تؤت ثمارها على نحو جاء وفقا لديمقراطية كفر بها حين لم توافق أهواء البعض.. أو ابتذال الدين بافتعال المواقف واقتناص الفرص لوصفه بالجمود والرجعية بالوطن إلى عصور الظلام.. أو ابتذال مفهوم الدولة ليصبح إسقاطه وهدمه هو الوسيلة الوحيدة لإنتاج الفكر الفوضوى باسم الثورة.. أو ابتذال الرئيس بإهدار قدره واستباحة عرضه بدعوى حرية النقد لترسيخ اللاقدوة واللاقيادة لتضل البوصلة الفكرية للمجتمع عن اختيار المسار، أو ترتد إلى سابق عهد، أو ابتذال الرغبة فى التغيير حتى يصبح الأمر المألوف أهون على النفس وإن سقانا المرار كئوسا عبر السنين، أو ابتذال مفهوم الحرية من خلال تخلى العقول عن أى التزام أو قاعدة أو إطار فكرى، بزعم أنه يمثل قيدًا حتى وإن حمل قدسية الوحى الإلهى أو ثبت صلاحه وبناؤه لكل حضارة عبر قرون وقرون، ومن ثم تصبح ملحفتك حريتك حتى وإن أباحت لك اختراق حريات الأخرين. وأخيرا ابتذال الدم المصرى الغالى حين يتاجر به لاستدعاء مشهد 25 يناير فى ابتذال مهين من أجل تحقيق رغبات رخيصة. إنها خطة ماكرة.. عملة ذات وجه واحد قبيح تعبث بالعقول.. تغير الثابت وتثبت النسبى والمتغير.. حيث تختلط الأمور فلا يدرى العقل مَن المحق، بل أين الحق؟ إنها فتنة ممنهجة يسهم فيها مؤسسات وأفراد؛ أصحاب رءوس أموال وفقراء يُستغلون بالمال، رجال لا يستحقون شرف الشرطية ورجال يدعون البلطجية، نساء تنادت بحقوق المرأة وهدرت كرامتها بابتذال شرف الوطن، أطفال لا ذنب لهم استباحهم آباؤهم مقابل الثمن، نخبة فضائية تفلسف للخطة بكل ما أوتيت من علم زائف وقلب حاقد . والسؤال اليوم: هل سيثبت العقل المصرى أنه بفطرته أكثر ذكاء ودهاء.. ويثبت القلب المصرى أنه لثورته أكثر إخلاصا ووفاء.. ويثبت الشارع المصرى أنه بقوته أقدر على لفظ هذا الابتذال وطرده بعدما ذاق طعم النقاء والصفاء فى أناس ثاروا ثورة سلمية صادقة لتحرير الوطن فما ابتذلوا وما قتلوا وما هدموا وما خانوا وما كذبوا وما ضعفوا وما استكانوا، بل قدموا نموذجا فريدا مبهرا يصعب، بل يستحيل استنساخه مرة أخرى؟