إن الناس لا يقدرون خُلق الحياء حق قدره، فقد لا يعرف بعضهم أن للحياء مكانة مهمة فى منظومة الأخلاق التى تحكم حركة البشر، وأنه الخلق الوحيد الذى يحض على فعل ما هو خير وجميل، وأنه ليس خلقا محدودا يختص بسلوك معين أو وقت معين أو حالة معينة، ولكنه فعّال فى جميع سلوكيات الفرد وأوقاته وحالاته، حتى يمنعه فى خلوته من ممارسة ما يستحيى منه، وكأن الحياء بالنسبة لسلوك الفرد الظاهر يشبه الضمير بالنسبة للسلوك الكامن، وكلاهما -الحياء والضمير- يشكّل تفكير الفرد، ويجعل فعله بين الناس كفعله منفردا، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كَرِهْتَ أنْ يَراهُ النّاسُ فَلا تَفْعَلْهُ إذا خَلَوْتَ)). إن الحياء يجعل حركة المرء بين الناس فاعلة ومؤثرة، فالحركة تظل غير مؤثرة حتى يظللها الإيمان؛ ويظل الإيمان عريان حتى يلبسه المرء لباس التقوى، ولا يكتمل أى لباس حتى يزيّنه صاحبه بالزينة المناسبة، والحياء هو زينة الإيمان وزينة المرء وزينة الحركة، فإن "الإيمان عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء" كما قال وهب بن منبه. وأفضل شىء فى الزينة يكون كعلامة يُعرفُ بها صاحبها، لذلك كان الحياء شعار الإسلام وعلامته؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لِكُلِّ دِيْنٍ خُلقًا، وَخُلُقُ الإِسْلامِ الْحَيَاءُ)). ومكانة الحياء فى دنيا الناس مهمة، فهو مجلبة للخير ومقدّمة له: "الْحَيَاءُ لَا يَأْتِى إِلَّا بِخَيْرٍ"، وهو فى حد ذاته خير: "الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ"، وهو دليل على وجود الخير فى الإنسان: "خَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُها"، وهو ستر لصاحبه من العيوب، ففى الحكمة: "من كان الحياءُ ثَوبَه لم يَرَ الناسُ عيبَه". أما إذا قلّ حياء المرء، وتجرّأ على المحظور؛ فإنه لا ينتظر من الله سبحانه إلا أن يكشف عنه ستره، ويتركه لنفسه، فيُفتضح: "أَيّمَا اْمْرَأَةٌ نَزَعَتْ ثِيَابَهَا فِى غَيْرِ بَيْتِهَا، خَرَقَ الله عَنْهَا سِتْرَهُ" فوجوده علامة السلامة، واختفاؤه دليل الفجور: "إذَا زَنَتْ الْمَرْأَةُ ذَهَبَ حَيَاؤُهَا كُلُّهُ". والحياء له مكانته النفسية البالغة، فهو يدل على كرم النفس، وجميل السجايا، وحلو الطباع، كما يدل على عزة نفس لا ترضى الإهانة ولو بعيدا عن الناس، وهو دليل عفّة وطهارة، ورأس كل خلق حسن؛ وكفى به رفعة أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِمَّا أَدرَكَ النَاسُ مِن كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذا لَم تَستَحْ فاصْنَعْ مَا شِئتَ))، وهذا الحديث البسيط المعجز؛ يحدد مجالين للحركة بين الناس؛ أولهما: ما يترتب من حركة على عدم الحياء، ويشمل الحركة نحو المرغوب، ومجالها الحلال والمباح، فإذا لم يستح المرء من فعل؛ فهو صواب يقره الشرع أو العرف. وثانيهما: ما يترتب من حركة على الحياء، ويشمل الحركة ضد المحظور، ومجالها الحرام والممنوع، فإذا استحيا المرء من فعل فلا يفعله؛ فهو خطأ شرعا أو عرفا. والأصل فى إباحة الحركة أو حظرها هو تفاعل الحياء بقطبيه (الحياء وعدم الحياء) مع الصواب والخطأ، فينتج لدينا أربعة أنواع من الناس، أولها: شخص لا يستحيى من فعل؛ لأنه صواب ففعله. وثانيها: شخص يستحيى من فعل؛ لأنه خطأ فتجنبه. وثالثها: شخص يستحيى من فعل على الرغم من أنه صواب فتجنبه. ورابعها: شخص لا يستحيى من فعل على الرغم من أنه خطأ ففعله. وعلى ذلك تكون فطرة النوعين الأول والثانى نقية، فقد اتسق الحياء عندهما مع صواب الفعل وخطئه، أما النوع الثالث؛ فإن حياءه كان فى غير موضعه، فقد جعلته حساسيته النفسية يستحيى مما لا يُستحيا منه، فعليه أن يفعل الصواب ولا يمنعه حياؤه منه، وذلك حتى يجاهد نفسه ويعالجها، وليضبط مؤشر الحياء لديه حتى يعمل ضد الخطأ فقط، فإن الحياء من فعل الصواب لا يجعل الصواب خطأ، وفعل الصواب أولى من الاستسلام لحياء فى غير محله، فإن لم يتمكن من ذلك وغلَبته نفسه فعليه أن يستشير من يعينه على العلاج، وأما النوع الرابع: فعليه أن يعيد النظر فى قوة إيمانه أصلا، حتى يتسق حياؤه مع الصواب والخطأ، ولو ظل على حاله؛ فلن يكون له رادع يردعه، ولا معيار يضبطه، ولا قيم تحكمه، ولن يتمتع بالسواء النفسى بقدر عدم حيائه. إن زيادة الإيمان ونقصه، وصحة القلب ومرضه؛ ترتبط بقوة الحياء وضعفه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانِ قُرَنَاءُ جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ))، ومال صاحب الحياء الجنة، فإن "الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيْمَانُ فِى الْجَنَّةِ" وبنظرة شاملة لمفهوم الحياء قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَ الْحَيَاءِ))، فقالوا: يا رسول الله، إنا نستحى والحمد لله، قال: ((لَيسَ ذَلِكُمْ، وَلَكِنَّ الاْسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقُّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الْرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَذْكُرَ الْمَوْتَ وَالبِلَى.. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اْسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))، وكأن الاستحياء من الله حق الحياء يشمل الدين كله؛ لذلك روى عن قرة بن إياس رضى الله عنه قال: كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فذُكِرَ عنده الحياء، فقالوا: يا رسول الله الحياء من الدين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بَلْ هُوَ الدِّيْنُ كُلُّهُ)). إن الحياء حينما يتزاوج بالإيمان يصنع معه ثنائية التدعيم، فيدعم كل منهما الآخر ويقويه ويحرسه، وحينما يتزواج الحياء بالمراقبة يصنع معها ثنائية الخوف، فيخاف الفرد من الله ويستحيى منه، ويخاف الخطأ أمام الناس، ويستحيى منهم، ويخاف من الخطأ أمام نفسه، ويستحيى من نفسه. وحينما يتزاوج الحياء بالضمير يصنع معه ثنائية الكف والمنع، فإن الحياء يمنع الخطأ المنظور، والضمير يمنع الخطأ الكامن وغير المنظور، فالحياء واق، والضمير معالج، والحياء يتيح التدخل المبكر فيكفّ الخطأ، أما الضمير فيلوم ويؤنب على خطأ وقع، وبذلك يقوى الحياء عند صاحبه المجاهدة، أما الضمير فيقوى عند صاحبه التوبة والإنابة. ويقع الحياء من الإيمان.. والمراقبة.. والضمير.. موقع مراقب السلوك، فيحدد مدى توافق النتيجة النهائية للسلوك مع الإيمان، وإذا تزاوج الأربعة معا تكون منهم جميعا رباعية خيّرة، يكون فيها الإيمان هو الأصل، وتكون المراقبة هى الخيط الواصل بين السماء والأرض، ويكون الضمير هو صاحب القرار، ويكون الحياء هو معيار السلوك. فإذا كانت هذه الأربعة حية فاعلة فى حياة الناس؛ فإنها تدفع المرء لاستقباح أى عمل يعلم أن إيمانه يحرّمُه.. وحياؤه يمنعُه.. وضميره يزجره.. ومن يراقبه يبغضه. فإذا رأيت جرأة فى الباطل، وبذاءة فى اللفظ، وفُحشا فى القول، وفجورا فى الفعل، وكذبا بواحا، وتزييفا للحقائق، وخداعا للناس، فاعلم أن رباعية الخير ضعيفة أو غير موجودة، ولن يفكّر المجرم ساعتها فى مدى شين الفعل ولا قبحه، ولن يستحيى من الناس، فلا يهمه ما يقوله الناس عنه، وقبل ذلك لم يستح من الله سبحانه، فهو لم يشعر بمراقبته له، أو اطلاعه على قلبه وفكره وفعله، ذلك أن الإيمان فى قلبه باهت، أو الرقابة فى صدره واهنة، أو الضمير مرتبك، ومن المؤكد أن معيار السلوك السوى غير موجود، وهو الحياء، فإن مكانته عظيمة فى النفس وفى الحركة بين الناس.