هذا التنبيه يسمعه المسلم كل يوم عددا من المرات قبل الدخول فى جميع الصلوات الجماعية، فالمسلم مطالب بإقام الصلاة، وإقامتها تعنى أداءها جماعة فى وقتها، وفى الجماعة يسمع المسلم خمس مرات فى اليوم تنبيهات الإمام التى أولها: "استقيموا يرحمكم الله"، فإذا كان المسلم يسمع تلك الوصية ذلك العدد يوميا، فلا بد أن تؤثر فى فكره وقيمه وسلوكه، بل ينبغى أن تكون له شعارا فاعلا فى حياته كلها يدعوه إلى الاستقامة، ويدفعه إلى دعوة الناس إليها، والحديث يدعو إلى الاستقامة ويجعلها مجلبة للرحمة، كما يجعل الرحمة قرين الاستقامة، سواء كانت تلك الاستقامة فى صف الصلاة أو فى خضم الحياة، والناس بطبيعتهم يحبون الرحمة والتراحم. والاستقامة وسط بين طرفين، وفضيلة بين رذيلتين، كلاهما طغيان وجور، سواء كان طغيانا على الآخرين أو كان ظلما لذات، وتُعَدُّ كل رذيلة منهما حائلا دون الاستقامة، ومانعا من تحقيقها، ومعوقا من معوقات وجودها، ولذلك قال سبحانه: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا"، فقد قرن سبحانه الأمر بالاستقامة بالنهى عن الطغيان، فإن الطغيان بنوعيه بالنسبة للاستقامة يمثل حافتين مهلكتين لطريق ضيق، فلا بد للسائر فيه أن يكون على يقظة مستمرة ووعى مبصر لنهر الطريق، كما يلزمه التدبر المستمر، والتحرى الدائم لحدود الطريق، وبالمثل لا بد من ضبط الانفعالات البشرية التى تميل قليلا أو كثيرا؛ لأن الفرد لو غفل شيئا يسيرا لمال نحو إحدى الحافتين فهلك، وقد قال سيد قطب فى تفسير هذه الآية: "وإنه لما يستحق الانتباه هنا أن النهى الذى أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهيا عن القصور والتقصير، إنما كان نهيا عن الطغيان والمجاوزة، وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه فى الضمير من يقظة وتحرّج قد ينتهى إلى الغلو والمبالغة التى تحول هذا الدين من يسر إلى عسر، والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير". أما الحافة أو الرذيلة المهلكة الأولى فهى: الطغيان ومجاوزة الحد الناتج عن الغرور، والغرور يتجسد فى صور متعددة تُعَدُّ كلها طغيانا وبغيا، فالبغى الناتج عن الغرور بالقوة هو البطش بالضعيف، والبغى الناتج عن الغرور بالجاه هو الظلم وأكل الحقوق، والبغى الناتج عن الغرور بالعلم هو كلام المرء فيما لا يعلم، والفتوى بغير دليل، والبغى الناتج عن الغرور بالمال هو التبذير والإسراف والإغراق فى الرفاهية والمبالغة فى التنعم والمتع، والبغى الناتج عن الغرور بطول العمر والإمهال هو المعصية، والبغى الناتج عن الغرور بالصحة هو البطر والانحراف، والبغى الناتج عن الإعجاب بالنفس هو الكبرياء والتجبر، والبغى الناتج عن الغرور بالشهرة هو الرياء والعجب، فإذا مال المرء إلى حافة هاوية الطريق هذه؛ فإنه يكون بذلك قد حاد عن الاستقامة، وانحرف عن الطريق المستقيم، ولم يستقم كما أمر الله. وأما الحافة أو الرذيلة المهلكة الثانية فهى الطغيان على الذات أو الجور على النفس، فكما أن الطغيان على الآخرين هو تجاوز الحد معهم وظلمهم، فيكون الطغيان على الذات هو تجاوز الحد معها وظلمها، وظلم النفس ناتج عن الشعور بالنقص، والشعور بالنقص بدوره يؤدى إلى سلوكيات سلبية وبغيضة مثل الاستكانة والخضوع والذلة والاستسلام، ونظرا لأن هذه السلوكيات السلبية مقيتة وغير محببة إلى النفس؛ فإن ممارستها تكون ضد طبيعة الإنسان الزكية، وضد فطرته النقية، وضد كرامة الإنسان الطبيعية، وضد عزة النفس الأبيّة، ومن ثم لا يكون ثمة دافع إليها إلا واحد من اثنين: أحدهما الخوف من الضرر المترتب على بطش الآخرين وطغيانهم، والثانى الطمع فى الربح المادى المترتب على ما لديهم من مكسب أو مصلحة، وكل من الخوف والطمع يدفعان صاحب النفس الضعيفة إلى مداهنة الطغاة والمتجبرين والظالمين، ويدفعانه إلى نفاقهم وصولا إلى المصلحة، ويدفعانه إلى الاستفادة من قوتهم أو أموالهم أو مكانتهم أو شهرتهم. وثمة خمس نتائج تترتب على نفاق المنافقين؛ أولها: أن يشعر الظالمون بالرضا عما يقومون به نتيجة مدح الجبناء والخائفين والمذعورين، ويشعر الطغاة بأنهم على حق نتيجة مداهنة صغار النفوس، وحقراء المطامع، وخبيثى النوايا، ويشعر المتجبرون بالراحة نتيجة تسلق الوصوليين إلى ما ليس من حقهم، وثانيها: أن يكثر فى المجتمع عدد المتسلقين على جثث الناس، والمتسللين إلى المناصب، والطامعين فى المكاسب، وثالثها: وهى أخطر؛ أن يزيد فى المجتمع عدد الطغاة، ويزدادون طغيانا، ورابعها: وهى أكثر خطورة؛ أن يدخل المجتمع فى دائرة خبيثة ما بين ظلم الظالمين، ونفاق المنافقين لهم، والزيادة المطردة لكلا النوعين، فينحرف كثير من الناس عن جادة الاستقامة إلى هذه السلوكيات الوضيعة، والتى لا تكلف صاحبها إلا النفاق والمداهنة، وخامسها: وهى تمثل قمة الخطورة؛ أن يتأصل الظلم فى المجتمع ويتعمق النفاق بين أطيافه، ويصبح أسلوبا شائعا فى التعامل بين بعض فئاته. أما الطبيعة الحية للاستقامة فتقتضى الثقة فى النفس، والإيجابية فى التحرك، وإسداء النصح للحاكم، ولأجل ذلك ترجم رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين واختزله فى تقديم النصح، فقال: "الدين النصيحة" فبالنصيحة يكون قوام هذا الدين وصلاحه؛ فإن النصح لله يقتضى القيام بأداء الفرائض واجتناب المحرمات، ويستلزم الاجتهاد بالتقرب إلى الله بالنوافل والطاعات وترك المكروهات، والقيام بواجب النصح يستلزم أيضا سلامة العقيدة من الخلل والغبش، فيستلزم الثقة بأن ما أصاب الفرد لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويحتاج تأكد الفرد بأن ما عند الله آت قريب، ويتوجب يقين المرء بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فيستطيع وقتها الاستقامة على أمر الله سبحانه. وتستلزم الاستقامة التعامل مع الطغاة والظالمين بالنصح والإرشاد، ثم التجنب والابتعاد، ثم الضغط والتحذير، ثم التهديد بفضح طغيانهم، ثم المقاطعة والمشاركة فى العقاب الجماعى، ثم اتخاذ إجراءات من شأنها وقف ظلمهم والحد من جبروتهم بالطريقة التى يراها العلماء، التى يقررها العقلاء فى كل مجتمع بحسبه، فإذا لم يأخذ الناس على يد الظالمين ويفضحوا ظلمهم وجبروتهم؛ يكونوا بذلك قد ركنوا إليهم، وقد حذّر من ذلك ربنا، فقال: "وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ". ولاحظ أن نتيجة الركون إلى الظالمين هى مس النار لكل من سكتوا على ظلمهم، أو رضوا بجبروتهم، أو حققوا لأنفسهم مصلحة على حساب غيرهم بمداهنتهم ونفاقهم وتملقهم. إن تحقيق المصلحة على حساب الاستقامة يُعدّ انتصارا لشهوة، أو استجابة لطمع، أو طاعة لوسوسة شيطان، أما نهج الاستقامة على الحق ولو على حساب المصلحة الشخصية؛ فإنه بمنزلة تربُّع على قمة السيطرة على النفس، وصعودٍ لذروة الشعور بالراحة، ووصول لقمّة الأمان والسعادة، وتحقيق لأوج الرضا والاطمئنان، وتمكن من كمال الثقة بالنفس، والتزام بتمام الحكمة، وتملّك للانسجام مع المخلوقات، وتحقيق للتوافق مع الكون الأشياء والناس، فاستقيموا يرحمكم الله.