"لا يشكر الله من لا يشكر الناس"، كلمات جامعة أطلقها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منذ 15 قرنا كاملة، وما زال صداها يسرى عبر الزمان والمكان فشكر الناس جزء لا يتجزأ من شكر الله، وحينما تجحد من أحسن إليك فإنك تجحد الله. إنها معادلة إيمانية صحيحة، وقد اختبرت هذه القاعدة طويلا، وراقبت تطبيقها على واقع الناس والحياة، فرأيت كل من يجحد معروف من أحسن إليه وفضلهم عليه يجحد فى الوقت نفسه ربه وخالقه، إنه خلق الشكر الذى لا يتجزأ ورذيلة الجحود التى لا تقبل القسمة. وقد تفكرت فى رذيلة الجحود فلاحظت زيادة معدلاتها بعد الثورة، والحقيقة أن الثورة لم تفجر الجحود ولكنها أظهرته وكشفته فقط للعيان. فقد سقطت كل الأقنعة بعد الثورة، فلا الحقود أو الشرير والموتور أو الطامع يستطيع أن يستر تلك الآفات بأى قناع، وهذا ليس عيب الثورة فى ذاتها، ولكنه عيب من كان يستر سواد قلبه بستار الكذب والبهتان. وقد أعجبنى ما قاله لى شقيقى الأكبر أ/ صلاح إبراهيم ذات مرة: إن الجحود أضحى من الفنون، وقد تابعت مسيرة الجحود فوجدت أن إبليس كان هو الفارس والمعلم لها حينما جحد ربه ومولاه وجحد فضل آدم عليه وأصر على جحوده. وفى الحياة المعاصرة قصص للجحود لا أول لها ولا آخر، فقد جحد بروتس ولى نعمته قيصر وتآمر على سيده مع المتآمرين وكان خنجره أقرب إلى قلب سيده من باقى الخناجر حتى عبر عن ذلك المبدع "شكسبير" فقال: "حتى أنت يا بروتس". ويعد شكسبير أفضل من كتب عن الجحود وكأنه يترجم أو يشرح حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) فحكى قصص الغدر فى مسرحية "الملك لير" و"هاملت" وكأنه اكتوى بالجحود فعبر عنه فى كل قصصه. وقد غدر عبدالرحمن الداخل بمولاه "بدر" وسجنه بعد أن مكن له من الأندلس، ناسيا أنه لولا "بدر" هذا ما دخلها أبدا، فهو الذى هيّأ ورتب له كل الأمور. وهذا المنصور بن عامر يغدر بحاجبه "رئيس الديوان" جعفر المصحفى فسجنه بعد أن وطد ملكه. وهذا المعتمد بن عباد يدعو يوسف بن تاشفين إلى الأندلس لحمايتها من الفرنجة فيستولى يوسف على الأندلس ويسجن المعتمد الذى أنشد قصائد رائعة تغنت بها الأجيال. ولذا قال الناس: "السلطان من لا يعرف السلطان"؛ لأن أهل السلطة لا يعرفون شكر من أحسن إليهم ولا من أوصلهم إلى المجد، بل يريدون إخفاءه من الوجود، لأن يعرف أسرارهم فى أوقات ضعفهم وهم يريدون محو لحظات ضعفهم من التاريخ. وإذا أردت أن تعرف الجحود فاقرأ تاريخ الثورات، فإنها عادة "ما تقتل أو تأكل أبناءها"، فقد قتل الفرنسيون آباء وقادة ومفجرى الثورة بالمقصلة ولم يرحموا بذلهم وعطاءهم. إن هؤلاء لا يعرفون معنى حديث رسول الله "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، ولم يعرفوا أن شكر الناس من شكر الله. إن الجحود فن يستشرى فى ربوع مصر كانتشار النار فى الهشيم، ناسين قصة الرجل الذى كان يستوقف الناس فى الصحراء بحجة مرضه حتى إذا نزل الرجل عن فرسه قيده وامتطى فرسه هاربا، فقال له أحدهم يوماً: "قد وهبتك فرسى ومالى، ولكنى أرجو ألا تحدث أحدا بما صنعت معى ومع غيرى، حتى لا تضيع المروءة بين الناس"، فتاب اللص على يدى هذا الرجل الذى لم يخف على فرسه وماله ولكنه خاف من انتشار الجحود بين الناس وضياع الشكر بينهم.