ليست لى خصلة من الخير أتقرب بها إلى الله مثل محبتى الجارفة للرسول (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الأطهار منذ نعومة أظافرى. فلست من العباد أو الصوّام.. فالصداع النصفى الذى يلازمنى هو العدو اللدود للصيام. ولست من الزهاد.. حيث إن تطلعات أسرنا وأولادنا فى الحياة تحول بيننا وبين ذلك.. وخاصة أنهم تعبوا وعانوا معنا كثيراً فى فترات عصيبة. كما أن الزاهد الحقيقى لا يُعرف إلا إذا ملك مالاً يستطيع الإنسان مقاومة إغرائه.. مثل عمر بن عبدالعزيز وأمثاله ممن ملكوا فزهدوا فيها.. فقد كان يحكم نصف الكرة الأرضية ويستطيع محاربة بل وهزيمة النصف الآخر.. وكان فى ثوبه أربع عشرة رقعة.. فليس هناك زاهد على الحقيقة إلا ما ندر، ممن ملكوا الدنيا وزهدوا فيها. ولست.. ولست.. ولا أجد أفضل من حبى الجارف للرسول.. ولذلك أحرص على كتابه عدة مقالات عن النبى العظيم محمد (صلى الله عليه وسلم) كل عام، فضلاً عن كتابى الأثير إلى قلبى «ذكريات مع الحبيب (صلى الله عليه وسلم)».. عسى أن تنالنى شفاعته. لقد رضعت حب النبى من والدى -رحمه الله- الذى كان يصلى على الرسول (صلى الله عليه وسلم) مئات المرات. ولدت يا سيدى يا رسول الله يتيماً، ولكنك لم تحقد أو تحنَق على أحد. تطاول عليك الكثيرون يا سيدى، فقالوا: مجنون وساحر وكاذب.. فما بادلتهم الفحش بمثله ولا التسفل بمثله.. لقد كنت دوماً الأرقى خلقاً والأعظم أدباً والأعف لساناً. آذاك وعذبك الكثيرون.. قريش وثقيف وغيرهما.. فما انتقمت ولا غدرت حين سدت، بل ازددت تواضعاً ودخلت مكة مطأطئاً رأسك. لقد بلغ من حلمك وصفحك يا سيدى أن رفضت رغبة الصحابى ابن زعيم المنافقين عبدالله بن أبى ابن سلول فى قتله وإراحة المسلمين منه.. وذلك شفقة ورحمة بالأب والابن معاً، وقلت له: «نحسن صحبته ما عاش بيننا»، رغم طعنه فى عرضك. علمتنا ألا ننشغل بالجزئيات عن الكليات.. ولا بالفروع عن الأصول.. ولا بالسنة عن الفرض.. ولا بالفرض عن الإيمان.. وألا نحول الصغيرة إلى كبيرة.. ولا الخطأ إلى خطيئة.. ولا الخطيئة إلى الكفر.. وألا نحول المندوبات إلى فرائض أو المكروهات إلى محرمات.. لقد علمتنا فقه الأولويات، فلكل شىء فى الإسلام مرتبة ودرجة لا يتجاوزها ولا ينزل عنها. علمتنا أن ندور مع الشريعة حيث دارت ومع الإسلام حيث كان، ولا ندور مع الأشخاص مهما كانوا. علمتنا أن أشد الأوقات ظلمةً هى التى تسبق طلوع الفجر.. وأشدها برداً هى التى تسبق حر الشمس، {فإن مع العسر يسرا}. فى زمن الجحود الذى نحياه، علمتنا أن نشكر كل من أحسن إلينا.. فقد سارت كلماتك العظيمة فى فضاء الكون عبر الزمان: «لا يشكر الله من لم يشكر الناس».. وكأنك تقول لنا: إن الذى يجحد أفضال الآخرين عليه هو جاحد فى الأصل لربه ومولاه.. لقد أردت يا سيدى أن تهب أسارى بدر كلهم لمشرك هو «المطعم بن عدى لو كان حياً». لقد علمتنا يا سيدى كيف صهرت فى بوتقة الإسلام صهيب الرومى وسلمان الفارسى وبلال الحبشى وعلى بن أبى طالب القرشى.. دون أن يفقد واحد منهم خصائصه أو يتخلى عن شخصيته. خُيرت يا سيدى بين أن تكون ملكاً رسولاً أو عبداً رسولاً .. فاستجبت لنصيحة سيدنا جبريل «أن تواضع لربك»، وفهمت الإشارة.. فاخترت أن تكون عبداً رسولاً.. «بلا برستيج أو هيلمان ولا بروتوكول».. وقلت دوماً: «أنا عبد.. آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد».. تواضعاً منك وأنت أشرف الخلق جميعا. علمتنا أن القرآن والسلطان سيفترقان.. وأوصيتنا إذا حدث ذلك أن نكون مع القرآن لا مع السلطان.. فالقرآن أبقى وأدوم وأعظم وأسمى.. أما السلطان فزائل.. وإذا بقى فهو متقلب لا أمان له.