للأمم طفولة كطفولة الأطفال، طفولة تصنعها الأمم لأنفسها، وترضاها لشخصيتها؛ حيث تتصاغر إلى حد الاستقزام، وتتضاءل إلى حد البله، وتتدنى إلى حد المهانة، وهذه حالة مرضية، وعلة نفسية، تحتاج إلى طب ودواء، ونقاهة وشفاء، حتى تعود إليها طبيعتها، وترتد إليها شخصيتها، ولكن المحير الذى لا ينفع معه طب أو علاج، هو أن تتعامل هذه الأمم مع الأطباء والدواء بمنطق العداء، وبأسلوب الكاره للعافية والشفاء! وهذا ما يطلق عليه الكثيرون فى بعض الأحيان "القابلية للاستعمار"، وأظن أن أمتنا اليوم تعيش فى رحاب تلك الطفولة. ولله در القائل: كنا الحصون بأرض الله شامخة فيها الحماة إذا عز المحامونا كنا الرياح إذ نادى الصريخ بنا كنا الرجاء إذا ضيمت أراضينا كنا الجبال ثباتًا فى مواقفنا كنا السماء سموًا فى معانينا واليوم، وأى يوم هذا! لا نعرفه؛ حيث: يميتنا الحزن تفكيرًا بحاضرنا ويبعث الهم عصرًا من مآسينا يا كربة النفس للإسلام ما صنعت بكل أرض به أيدى المعادينا الأرض قد ملئت شرًّا وزلزلها جور الطغاة ولؤم المستغلينا يا للطغاة وما أشقى الأنام بهم عاثوا قوارين أو عاثوا فراعينا وقد يسائل الإنسان نفسه: هل الأزمة التى تعيشها الأمة اليوم من الخوف والوهن والتشتت والتشرذم هى شىء عابر؟ أم أنها أوجاع لأمراض فكرية وسياسية ونفسية عاشتها الأمة وما زالت، وعاصرتها وما برحت، وهى الآن تلفها بهول كثيف من الدواهى والفتن والزلازل؟ وما أرانى وما أحسبنى أميل إلى الأوهام أو المصادفات التى ربما تنطلى على الأطفال أحيانًا؛ لأن كل عمل تقابله نتيجة، وأمة ليس عندها رؤية للتجمع أو الوحدة أو الفهم والفكر الصحيح أو التعايش والتحاب أو التقدم والنهضة أو الريادة والانطلاق للمستقبل أو الاستقلال والتخلص من التبعية، أو الاستقرار على عقيدة وهوية، جدير بها أن تتفتت وتعيش فى عواصف من الخوف وأمواج من الرعب وعدم الاستقرار، وتصبح نهبًا للاستعمار والاستغلال، لعدو بعيد يتجهمها أو قريب يملك أمرها ويسوقها بالعصا الغليظة ومقامع الحديد. وإلا فأين أجهزة الأمة المختلفة وأين عملها إن كانت هناك أجهزة؟ وأين نتائج تلك الأعمال وما الأسباب التى تعوقها؟ أين السياسة والمؤسسات السياسية؟ أين الأحزاب السياسية؟ أين أصحاب الفكر والنخبة؟ لماذا لم تحل مشاكلنا سياسيًّا؟ لماذا لا تعتبر هذه المؤسسات وساستها أن مشاكل الأمة مهما كانت عويصة تحدٍّ يجب الانتصار عليه؛ لأن استقرار الأمة واقتصادها ومستقبلها وهويتها وانطلاقها مرهون به؟ لماذا تكون السياسة عند بعضنا نوعًا من التبعية ورعاية مصالح الخصوم ومسايرة الشهوات؟ ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن السياسة فى الأمة قد جذرت العديد من المشاكل وجعلتها غير قابلة للحل، حتى صارت طبيعة فى بعض السلطات والأجهزة الأمنية على السواء، وقد تعدى ضررها إلى الغير، ونحن نرى ذلك اليوم: سياسة ضلت الطريق، ففرغت المؤسسات من الرؤى الصائبة والنظرة المخلصة المستقلة، وعميت حتى جعلت الصديق عدوًا والعدو صديقًا! ثم لماذا لا يقوم المثقفون فى الأمة بالدور المطلوب منهم، بل أين أصحاب الفكر فى الأمة؟ وأين الكتاب والمفكرون وأصحاب الرأى والمكانة فى المجتمعات؟ لمَ لم يؤلفوا الوفود ويذهبوا هنا وهناك لتقريب وجهات النظر وتهيئة الأجواء لجمع شمل الأمة وقيامها بما ينبغى عليها؟ أين علماء الأمة؟ أين الأزهر والجامعات وأساتذتها؟ لماذا لا يقفون صفًّا مع الأمة ويكونون نصاحًا ومرشدين ومعضدين للسلطات بالرأى السديد؟ أين الأحزاب الوطنية والنقابات المهنية والاتحادات الطلابية وغير الطلابية؟ بل أين أدوار المرأة الوطنية؟ لا أظن أن أحدًا من الساسة أو المفكرين والعلماء والمثقفين بعيد عن اللوم أو المؤاخذة فيما وصلت إليه أحوال هذه الأمة. إن الصحافة والمجلات والإذاعات والتلفازات والقنوات الفضائية فى مكنتها أن تفعل الكثير فى تنبيه الأمة إلى الخطر المحدق بها، وفى كشف الكثير من الأضاليل والترهات التى يقصد بها التوهين وقتل الطاقات والتعمية على الإصلاح والإصلاحيين، وما تقوم هذه الأدوات إلا بجهد المثقفين وفكر العلماء والمتخصصين. ولماذا لا يكون هناك بعض التضحيات من الامتناع مثلًا ولا نقول الإضراب عن بعض الأبواق والقنوات التى لا تخدم الأمة ولا تصب فى مصلحتها وحمل رسالتها؟ ما قيد الفكر منا جور طاغية أو أوهن العزم بطش المستبدينا غرامنا الحق لم نقبل به بدلًا إن غيرت غِيرُ الدنيا المحبينا فى الخوف والأمن ما زاغت مواقفنا والعسر واليسر قد كنا ميامينا وأقول بعد ذلك: لا بد لنا من إيمان، أكرر إيمان إيمان بالله، إيمان بالرسالة، إيمان بالعدالة، فهذا هو العاصم، وهذا هو الصدق وملاك الصادقين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. وأقولها صريحة داوية: إذا أراد المسلمون أن يكونوا أمة مجد كما كانوا، وعز كما عرفوا، لا بد أن يولد المسلم ولادة جديدة من عقيدته، لا من رحم أمه، وينبعث من معرفته بالله وحرارة إيمانه بربه، وتصديقه بوعده ووعيده، عملاقًا شامخًا، يرتفع ببصره ويعلو بأمله ويسمو بواقعه فوق هذه الدنيا، وفوق عبَدتها الذين يظنون أنهم قادرون على محو الإسلام والمسلمين، وصدق الله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. هذا ولا بد أن يعلم المؤمن أن هناك بونا كبيرا بين النجاح والفشل، فالناجح يفكر على أنه ناجح، ويتصرف ويشعر كالناجحين، ويحلم أحلام كبيرة كالناجحين، ويؤمن بنجاحه، وبقدرته على مواجهة كل المعوقات وتذليلها فى سبيل الوصول إلى أهدافه. فيجب أن نعلم أن النجاح ما هو إلا حالة ذهنية للفرد، فإذا فكر الإنسان على أنه ناجح ينجذب إليه كل شىء من أشخاص وأحداث وفرص لتحقيق ما يفكر فيه وما يتوقعه لنفسه وحياته (المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف). أما الإنسان الفاشل: فإنه يفكر ويشعر ويتصرف كالفاشلين، ويحلم بأقل شىء من الممكن أن يصل إليه أو يحصل عليه، وتكسره أول عقبه صغيره تقف فى طريقه، فهو لا يثق فى نفسه ولا فى قدراته، ويؤمن بشكل راسخ أنه مهما فعل فإنه سيفشل بالتأكيد. فهذه هى الحالة الذهنية الخاصة بالإنسان الفاشل.. حيث تجذب له كل شىء يؤكد فكرته عن نفسه، وتساعده على الوصول إلى الفشل بأسرع وقت. الخلاصة: فكر فى النجاح يأتيك النجاح.. فكر فى الفشل تحصل عليه.. ففى النهاية النجاح والفشل حالة ذهنية للفرد.. فإذا فكرت أنك ناجح فأنت ناجح، وإذا فكرت أنك فاشل فأنت فاشل، فكل ما تفكر فيه سيأخذه عقلك الباطن على أنه حقيقة وواقع، ولن يجادلك فيه وسيطبعه فى حياتك لتصبح كما أردت. ومن دساتير الفاشلين أقوال بعضهم: تخل عن إيمانك تكن مبدعا، حارب التعليم الإسلامى والفكر الأسمى تكن مبدعا، اجمع القمامات الفكرية من مواطن الزبالة فى العالم أجمع وارم بها المجتمع الإسلامى تكن مبدعا، وبعد هل عرفت الإبداع فى منطق الفاشلين ومفسدى الإبداع (محمد الغزالى). ومن دساتير الناجحين: إنما تظهر الرجولة بالصبر والمصابرة والجد والعمل، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقطف زهرة قبل أوانها فلست معه فى ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة الإيمانية إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر معى حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره فى ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة (حسن البنا). إن كل يوم يمضى لا تعمل فيه الأمة عملا للنهوض من كبوتها يؤخرها أمدا طويلا (حسن البنا). إذا لامست معرفة الله قلب الإنسان تحول من حال إلى حال، وإذا تحول القلب تحول الفرد، وإذا تحول الفرد تحولت الأسرة، وإذا تحولت الأسرة تحولت الأمة (حسن البنا). أيها الإخوان كونوا عبادا قبل أن تكونوا قوادا تصل بكم العبادة إلى أحسن القيادة (حسن البنا). لماذا نيأس من الإصلاح، هب أننا سوف لا نصل إلى شىء من النتائج، ولنعمل على هذا الأساس كما عملنا من قبل، فماذا يضيرنا؟ ألم نؤد الواجب؟ ألم نتحر الحق؟ ألم نؤد الرسالة؟ ذلك حسبنا والله ولله عاقبة الأمور (حسن البنا). وبعد.. هل تحب أن تكون مع الناجحين أم مع الفاشلين؟! مجرد سؤال ولكنه هو مستقبل الأفراد والأمم والشعوب، والله نسأل أن يوفق إلى الخير وإلى طريق مستقيم.