الشيخ/ محمد عبد الله الخطيب من علماء الأزهر الشريف والعضو السابق بمكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين الحج هو المؤتمر العالمى الجامع للمسلمين قاطبة، مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق، الموصول بأبى الأنبياء خليل الله عليه السلام، يقول الحق تبارك وتعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[الحج]. والحج من الشرائع القديمة قِدم الإنسان، فقد ثبت أن الأنبياء ومن اتبعوهم كانوا يحجون البيت الحرام؛ روى الإمام أحمد والبيهقى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بوادى عسفان، فقال: «يا أبا بكر، لقد مر بهذا الوادى هود وصالح على بكرات، خطهما الليف، يحجون هذا البيت العتيق». وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: وقف النبى صلى الله عليه وسلم بعرفات وقد كادت الشمس أن تئوب، فقال: «يا بلال، أنصت لى الناس». فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنصت الناس، فقال: «معشر المسلمين أتانى جبريل آنفا، فأقرأنى من ربى السلام، وقال: إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر الحرام وضمن عنهم التبعات»، فقام عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: يا رسول الله، هذا لنا خاصة؟ قال: «هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة». فقال عمر: كثر خير الله وطاب. وفى هذه الأيام نعيش أيام العشر المباركة السعيدة من ذى الحجة، وحجاج بيت الله من أطراف الأرض يقصدون البقعة المقدسة، يبذلون الرخيص والنفيس، وكل حاج يحدث نفسه، ويمنى عينيه أن تكتحل فتفوز بالنظر إلى البيت العتيق الكعبة المعظمة، أول بيت وضع للناس، بمكة مباركا وهدى للعالمين، إن كل حاج يبكى ذنوبه، ويبدى أسفه وندمه على تفريطه فى جنب الله، ويسأل مولاه الرءوف الرحيم رب البيت العظيم من فضله، عساه أن يخرج من ذنبه، وأدران الدنيا متطهرا فيعود كيوم ولدته أمه. والواجب على جميع المسلمين الحرص على طاعة الله فى هذه الأيام المباركة، فقد ورد فى الحديث «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب العمل فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير» كما ورد أيضا فى الأثر «وإن صيام يوم منها يعدل صيام سنة، والعمل فيهن يضاعف بسبعمائة ضعف». 1 –السبق فى تقرير الحقوق: ما أكثر المؤتمرات التى تعقد فى هذه الأيام، ثم تنفض ولا جديد، لكن مؤتمر الحج العالمى، مؤتمر فريد، ولقاء عجيب فى عالم البشرية، مؤتمر يعقد تحت لواء الحق، وينبثق من ضمير الأمة، ولو فهم المسلمون أهداف الحج على وجهها الصحيح، وعاشوها كما أراد الله، من تزود بالتقوى، وعمل على وحدة المسلمين، وتقوية الروابط بينهم، لو فهم المسلمون هذا لانكشفت بوضوح مؤتمرات محترفى السياسة، وما وراءها من مصالح وأهداف لا يقرها الإسلام، ولا الأخلاق، ومن هنا يصبح مؤتمر الحج بحق مركز الثقل فى كيان وحياة أمة الإسلام، بل لأصبح بداية التحول الحقيقى فى تاريخ العالم كله. لقد وقف الرسول صلوات الله وسلامه عليه على عرفات فى حجة الوداع يعلن حقوق الإنسان، ويقرر مبادئ السلام الحقيقى، ويوضح معالم العدالة والمساواة بين الناس، قبل أن يعرفها العالم كله بألف عام، ووضع الحدود الدقيقة لحرمة الدماء والأموال والأعراض.. فقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم فى بلدكم هذا» وفى الحديث الصحيح «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه». وتحدث صلى الله عليه وسلم عن المساواة بين الناس، وهى حقيقة يتربى عليها المسلم عمليا فى الحج فقال: «إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربى فضل على أعجمى إلا بالتقوى» كما تحدث صلى الله عليه وسلم عن إياس الشيطان وهزيمته ومحاولاته فى الإيقاع بالإنسان والواجب على المسلم كل الحذر منه، وتحدث عن المرأة وما لها من حقوق، وما عليها من واجبات، ثم ختم حديثه صلى الله عليه وسلم بقوله «وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا، كتاب الله وسنة رسوله…ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد». 2 –مؤتمر السلام: لقد ارتبطت مناسك الحج بفكرة السلام والأمان، فليس للمسلم فى فترة إحرامه أن يقطع شجرا، أو يقلم ظفرا، أو يقص شعرا، وليس له أن يتدنى فيرفث أو يفسق أو يجادل، قال تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}. إن معركة السلامفى الإسلام ليست كلاما يقال، أو خطبة تلقى، بل هى حقيقة تبدأ من داخل القلب والضمير، والسلام الذى ربّى عليه الإسلام أمته هو الذى تنسجم عليه حياة المسلم مع هواتف الخير فى نفسه، فالذين يحققون معنى السلام فى أنفسهم، بتحريرها من كل سلطان غير سلطان الحق، هم وحدهم الأمناء على مستقبل الشعوب، وهم الذين يستطيعون أن يقودوا البشرية فى طريق السلام الحقيقى، ولقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقول حين يقع بصرنا على الكعبة المشرفة «اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام». 3 - ما يجب أن نتعلمه من الحج: يتعلم المسلمون من هذه الفريضة حقائق مهمة وأساسية، وعلى سبيل المثال: 1) حقيقة التجرد النفسى الذى تتحرر بها نفس المسلم وتخلص لله. 2) وحقيقة السعى والحركة والتحمل الذى تسلم به حياته من الاستسلام والعجز والكسل والدعة والخمول. 3) وحقيقة الصمود والكفاح والجهاد والمجاهدة التى تحفظ له كيانه من المهانة والذلة. 4) وحقيقة التضحية والفداء والاستجابة لأمر الله التى يمتحن بها الله إيمانه ويقينه. وما أحوج هذه الأمة الضائعة بين أمم الأرض والمغلوبة على أمرها والمسلوبة كل حقوقها إلى الذين يعملون دائما بأرواحهم لا بأشباحهم، وبضمائرهم وقربهم من معية ربهم، لا برقابة غيرهم عليهم!. إن الذى يحزن اليوم ويؤلم أشد الألم هو القعود العجيب وانصراف المسلمين وغفلتهم عن قضايا الأمة المصيرية، والبعد عن منهج الله وهدى الإسلام، بينما أعداء المسلمين يملئون الدنيا ضجيجا وفتنة للمسلمين، وتدميرا لعقول الشباب وقلوبهم وصرفهم عن طريق الهداية والاستقامة، أفلا يجب على المسلمين أن يجعلوا من موسم الحج مناسبة فاصلة بين عهدين فى حياتهم، عهد التفريط والقعود، وعهد اليقظة والصدق مع الله، والعمل لدينه والاهتمام بأمور المسلمين، والعزم على نصرة الإسلام، والمشاركة فى دفع الأذى عن أمة الإسلام. إن الحق يجب أن يقال وأن يسمع، فأحوالنا نحن المسلمين أصبحت لا تخفى على أحد، وتوشك معها القلوب أن تذوب، فهل يجوز أن يبدأ موسم الحج وينتهى ولا يذكر المسلمون قضايا الإسلام الكبرى قضية فلسطين وأهل فلسطين وأهل البوسنة والهرسك وكوسوفاوعلى رأس هذا كله سوريا بلد العلم والعلماء والجميع يستذلون ويبادون ويقتلون ويموتون جوعا أمام سمع الدنيا وبصرها؟ أخى المسلم بعد هذه الرحلة المباركة ما موقفك من قضايا أمتك؟ كن على عهدك مع الله، وقف مع العاملين لدينه، وهم مهما قلوا أو كثروا نبتة كريمة، وعزيمة مباركة، سوف تأتى أكلها ولو بعد حين، ذلك وعد الله والله لا يخلف وعده، وإياك ووسوسة الغافلين القاعدين، فعهدنا مع الله أن نصبر على طول الطريق وبعد الشقة، وقلة الزاد والراحلة، فاصبر صبر الرجال الأوفياء.. ففى آخر هذه الطريق روح وريحان، وأمن وأمان.. فى مقعد صدق عند مليك مقتدر.. وفقنا الله جميعا لما يحب ويرضى.. والحمد لله رب العالمين.