ما حدث يوم الجمعة الماضى فى ميدان التحرير، يستدعى من جميع القوى الوطنية والسياسية الثورية المخلصة -حقا- أن تتوقف وتعيد حساباتها، وتراجع خطابها السياسى والإعلامى المحتقن، والذى يكرس العداوة والبغضاء للآخر، ويؤجج مشاعر الغضب بين شباب غض خرج يوم 25 يناير حبا لوطنه وكراهية ورفضا للظلم والخنوع والإرهاب الذى مارسه نظام مبارك على مدى ثلاثين عاما، استخدم فيها كل وسائل الترهيب والتعذيب وفتح السجون والمعتقلات وحولها إلى سلخانات للبشر. كنا نأمل فى أن تتعلم "بعض" القوى السياسية الدرس من سنوات مبارك، وتتعلم أكثر من شباب الثورة الذين انصهروا فى الميدان فى بوتقة حب واحدة، وملحمة مصرية قل أن يجود علينا بها الزمن، بعد أن أصابنا اليأس والوهن واستسلم الكثيرون بوجود مبارك وهيئوا أنفسهم لقبول "الوريث" ليكمل مسيرة القهر، ولكن ما نشاهده الآن وما نلاحظه أن "البعض" بدافع كراهية الإخوان المسلمين وهم الفصيل الوطنى الذى سدد فاتورة لم يسددها أى تيار أو قوى سياسية فى مواجهة المخلوع ونظامه، قَبِل أن يلعب دورا مشبوها، ما بين محرض على أول رئيس مدنى منتخب، وإثارة القلاقل والإضرابات بدلا من أن يكون عونا على الدفع بمسيرة البلاد نحو الأمن والاستقرار، وإعادة الحياة إلى مسارها الطبيعى. لقد كان الخطاب التحريضى المؤجج للكراهية الدافع وراء تورط بعض الأشخاص المشبوهين، الذى لا يمكن أن يكونوا نشطاء سياسيين أو من قوى ثورية أو وطنية، أو لديهم حس وطنى فى أعمال حرق وتدمير واعتداء على سائقين جاءوا بأتوبيسات من المحافظات، ولا يمكن أن يتصور أن مواطنا مصريا يرقص ويصفق وهو يشاهد ألسنة اللهب تندلع فى سيارات أتوبيس سائقين يعملون عليها طلبا للرزق وفتح بيوتهم منها، أين النخوة المصرية؟ أين الشهامة التى عرف بها أبناء البلد الذين يهبون لنجدة المظلوم وإغاثة المحتاج، والذين نراهم عند اندلاع أى حريق يهبون لإطفائه قبل أن تصل سيارات الدفاع المدنى ومعدات الإطفاء. بل الأكثر غرابة من ذلك أن جريمة حرق أتوبيسات الإخوان المسلمين فى ميدان التحرير، لم تجد أى اهتمام أو إدانة من قبل إعلام موجه ممول من الفلول ومدعوم من المال الطائفى، بل وجدنا إعلاميا يقلب الحقائق ويرى فى حقن الإخوان للدماء وسحب عناصرهم من أجزاء الميدان هزيمة لهم، وأنهم طردوا من الميدان، إلى هذه الدرجة من الحقد والبغض والكراهية من "مارينز الفضائيات" ومستوطنى استديوهات برامج "التوك شو"، والأكثر من ذلك أننا لم نسمع كلمة أو حرف إدانة لجريمة حرق الأتوبيسات والرقص حول النيران المندلعة فيها، من سياسيين صدعوا رءوسنا بالحديث عن الديمقراطية والتوافق والتعايش وقبول الآخر. ولم يتوقف الأمر عند هذا السقوط المريع من رموز سياسية ووطنية نكن لها كل الاحترام والتقدير، بل وجدنا "البعض" لا يعير بالًّا بالأحكام الصادمة لجميع المصريين، التى قضت ببراءة جميع المتهمين فى "موقعة الجمل"، التى جاءت فى إطار المسلسل المشبوه ل"أوكازيون البراءة للجميع"، الذى منح صكوك البراءة لجميع الفاسدين والمفسدين ومن ولغوا فى دماء الثوار، ومن حرضوا وخططوا لقتلهم، ومن ارتكبوا جرائم محو الأدلة وإتلاف الوثائق، ومسح أشرطة كاميرات التصوير، وكان شهداء الثورة قتلوا أنفسهم، وأن المصابين هم الذين اعتدوا على أنفسهم بآلات حادة، وأن المشاهد التى رآها جميع العالم -على الهواء مباشرة- للخيول والجمال التى يقودها بلطجية ومجرمون واقتحمت ميدان التحرير للفتك بالثوار وقتل المتظاهرين، كانت كما قال أحمد شفيق: إنها "ذهبت للترويج للسياحة فى منطقة الأهرامات". لقد انتفض الجميع وخرجت الملايين إلى الشوارع والميادين بمجرد علمها بالأحكام الصادمة فى قضية المخلوع وأبنائه وأركان نظامه الأمنى، وعاد للميادين تلاحم القوة السياسية والوطنية، بعد أن تيقن الجميع أن خطرا شديدا محدقا بالثورة، وأن عناصر الثورة المضادة التى ما زالت تتكرس فى أركان الدولة العميقة بدأت تتحرك فى اتجاه إعادة عقارب الساعة للوراء، وأن جهات نافذة لعبت دورا فى الحشد لشفيق والتسويق له ودعمه بكل السبل تتحرك من جديد، وخرجت من جحورها إلى العلن، وأخذت تخرج ألسنتها للثورة والثوار، وكان من الطبيعى أن تهب القوى الوطنية والثورية وتنتفض بعد تبرئة رجال مبارك وأركان نظامه فى "موقعة الجمل"، ولكن رأينا عجبا من "بعض" هؤلاء الذين نسوا الأحكام الصادمة وانشغلوا بتصفية الحسابات السياسية والحزبية، والسير قدما فى الخطاب التحريضى الذى يكرس الكراهية والبغض للآخرين، ورأينا ولأول مرة بلطجية تفتح لهم برامج الفضائيات على الهواء مباشرة وهم يتحدثون بفخر شديد بجرائمهم وأنهم من قاموا بحرق أتوبيسات الإخوان والاعتداء على السائقين، دون وازع من ضمير أو حتى تعليق من مقدمى هذه البرامج على هذه الجرائم البشعة. ويصل الأمر مداه فى تكريس "بعض" السياسيين لخطاب الكراهية والبغض وتصفية الحسابات، وجدنا دفاعهم الغريب والعجيب والمناقض لجميع مواقفهم السابقة من قضية النائب العام الذى عينه مبارك واستمر فى منصبه حتى الآن، ونسوا أن من الأهداف المعلنة للثوار فى الميادين إقالة النائب العام بعد فشل النيابة العامة فى تقديم أدلة اتهام فى جميع قضايا قتل الثوار، وظهر "الفلول" بجوار رؤساء أحزاب كرتونية، ومناضلين "آخر الزمن" وشخصيات عرف عنها لعب أدوار مشبوهة فى عهد مبارك ليدافعوا عن كهنة نظام المخلوع، ويتحول النائب العام إلى "شهيد استقلال القضاء"، ونسى هؤلاء من دافع عن استقلال القضاء ومن سير المظاهرات دعما لقضاة الاستقلال، والخمسة آلاف معتقل الذين تم اعتقالهم فى هذه المظاهرات وكان فى مقدمتهم الدكتور محمد مرسى، فى وقت لم يكن يسمع ل"الزند" اسم، ولا من يقفون بجواره "صوت"، بل صمت هؤلاء جميع أمام واقعة اعتداء ضابط شرطة على رئيس محكمة جنايات بالحذاء أمام نادى القضاء، وسحب ضابط شرطة لكارنيه قاضى محكمة استئناف بالعياط فى انتخابات 2010 المهزلة وسبه واحتجازه داخل اللجنة، فأين كان هذا "الزند" وقتها ليتقمص اليوم ثوب المجاهد المناضل المدافع عن استقلال القضاء؟ آن لجميع القوى السياسية والوطنية الثورية حقا -لا الأدعياء الذين كانوا خداما لمبارك ونظامه- أن يراجعوا مواقفهم فلا غالب ولا مغلوب، وأن يعلى الجميع من مصلحة الوطن ويوقفوا حملات البغض والكراهية، وأن يكون التنافس فى الميدان لنيل ثقة الشعب وخدمته.