يتجدد فى ذكرى أكتوبر من كل عام بث القنوات المصرية الأرضية والفضائية لعدد من الأفلام الخاصة بنصر أكتوبر العظيم التى أصبحت مطبوعة فى ذاكرتنا لكثرة تكرار عرضها فى المناسبة نفسها من كل عام على مدار عقود طويلة، مما دفع الكثير للعزوف عنها؛ ربما لكثرة تكرارها فهى تعاد كل عام وتتوزع على الخرائط البرامجية للقنوات، وربما كان العزوف بسبب سطحيتها واستخفافها بعقلية المشاهد؛ فمعظم أفلام السبعينيات وحتى الآن لم تخلد وتسجل براعة الجندى المصرى ولم تفتش عن أسباب الهزيمة ودوافع النصر، بل كان تناولها ضعيفا وشحيحا بعد أن حولت الحدث الرئيسى "العبور" ليكون عارضا وهامشيا. صفحة "سينما" سعت لإعادة القراءة فى بعض الكتب الثرية التى تناولت دور السينما فى الأحداث السياسية وكيف تأثرت بها، وهما كتاب "السينما والسياسة" للدكتور على أبو شادى، وكتاب "السياسة والسينما فى مصر" للدكتورة درية شرف الدين. د. على أبو شادى: 6 أفلام تجارية بحتة.. و"أبناء الصمت" الأفضل يتناول أبو شادى فى كتابه أفلام الحرب، والبالغ عددها 6 أفلام، التى أنتجت فى فترة السبعينيات حتى 1981: يرى أبو شادى أنه كان من الممكن أن تشكل سنوات المعاناة قبل العبور معينا لا ينضب لأحداث درامية ثرية بما تحتشد به من بطولات على المستويين الشعبى والعسكرى، ولكن نقص الوعى لمن حاول التصدى لتحليل الواقع ولجوء البعض الآخر للمنطقة الأحوط والبعيدة عن المشاكل والمساءلات أنتج أفلاما ضعيفة لم تستغل الحدث الكبير فى بناء درامى يليق بها، ولأن السينما صناعة كأى صناعة تجارية أخرى فقد استغل تجار السينما واستثمروا الحدث فى تحقيق مكاسبهم؛ فامتهنت أفلامهم المناسبة وسقطت فى هوة الابتذال السياسى والفنى. ففى عام 1974 قررت الدولة أن تكون أولوية العرض فى دور السينما للأفلام التى تتناول حرب أكتوبر مثل فيلمى "الوفاء العظيم" لحلمى رفلة، وفيلم "بدور" لنادر جلال، والفليمان تم فيهما إقحام بعض المشاهد عن الحرب فى السيناريو الجاهز مسبقا ليزيد من استثماراته وأرباحه، وكأنهم استغلوا الحرب كمصادفة ميلودرامية مثلها مثل تصادم قطارين أو إصابة البطل بمرض عضال وكلاهما أتت بهما الحرب كحيلة يستفيد منها المؤلف ليجمع قلب العاشقين، ففى الفيلم الأول يضحى الحبيب من أجل الزوج، فيقرر الزوج أن يضحى للحبيب ويسلمه زوجته على أرض المعركة التى جمعتهما. أما الفيلم الآخر، فجعل أرض المعركة مكانا لالتقاء العشاق، فيضحى العامل البسيط عن حبه لصالح النشال وينقذ حياته فى أثناء المعركة، فيرد له الأخير الجميل ليتنازل هو بدوره عن حبه ليتزوجها عامل الصرف الصحى! أما فيلم "حتى آخر العمر" فإن المخرج أشرف فهمى كان أكثر ذكاء؛ فجعل بطل الفيلم طيارا أقعدته إصابته فى الحرب عن الحركة ليبتز مشاعر وعواطف المشاهدين، ويستغل مشاهد التدريب بالطائرات ليقنع المشاهد أن الفيلم عن حرب أكتوبر، بينما هو مجرد حدث عارض تسبب فى إعاقة البطل. أما فيلم "الرصاصة لا تزال فى جيبى" لحسام الدين مصطفى، فقد توفرت به مشاهد كبيرة للمعارك؛ فشاهدنا المعدات الحربية والجنود والصواريخ لكننا لم نر العدو ظاهرا، لكن الفيلم فى مجمله قدم بانوراما فجة للفترة 67-73، محملا جمال عبد الناصر المسئولية كاملة وغض الطرف عن تكاتل الغرب والصهيونية ضد مصر لتكون عبرة لكل الدول الساعية للحرية. فيلم "أبناء الصمت" لمحمد راضى، كان من أفضل الأفلام التى تناولت حرب الاستنزاف بعد أن أضاف مشاهد لبداية الحرب فى نهاية الفيلم، فأظهر الجنود المنتمين لمختلف الطبقات وعاشوا حرب الاستنزاف واستشهد بعضهم ووضح بوعى كامل أسباب هزيمة 67، وأكد على المعنويات المرتفعة للجنود وانتماءاتهم الدينية والطبقية. لكن التجربة الثانية لراضى باءت بالفشل فى فيلمه "العمر لحظة" لكن بأداء أسوأ بكثير من سابقه ليظهر عملا ركيكا وهشا لا يختلف كثيرا عن أفلام حرب أكتوبر السابقة. فى الستة الأفلام السابقة -باستثاء "أبناء الصمت"- استبدل مخرجوها الأحداث العارضية بأحداث الحرب فقزمت الحدث الكبير وتحاشت التعامل مع قضية الصراع العربى الإسرائيلى وانشغلت بالداخل تبحث عن أسباب الهزيمة أو تختزل أحداثها لتكون على الجبهة نفسها. د. درية شرف الدين: سذاجة وسطحية ونهايات حزينة فى فرحة الانتصار! تتفق د. درية شرف الدين -فى كتابها "السياسة والسينما فى مصر"- مع على أبو شادى فى أن سينما السبعينيات تناولت الحدث الكبير من منطلق تجارى بحت؛ فامتازت بالسذاجة والسطحية شكلا ومضمونا، بل توحدت سماتها التى يمكن حصرها فى التالى: التعرض لمجتمع هزيمة 67 كمقدمة لنصر أكتوبر كان تعرضا هزيلا، اعتمد على عناوين الصحف وكلمات عابرة على ألسنة الناس دون أن نلمح أو نعاصر أثره النفسى على المجتمع. تناول أكتوبر كحدث منفصل عن مجمل الفيلم؛ فكانت مشاهده أقرب للفيلم التسجيلى دون أن نلحظ تلاحما بين أكتوبر وباقى نسيج الفيلم. لم تظهر مقدمات الحرب فى الأفلام ولا إشارت حتى إلى حتمية حدوثها، وإنما قدمتها فجأة وجاءت متأخرة فبدت كنهاية مضافة يمكن استبدالها بأى حدث آخر. وردت مشاهد حرب أكتوبر إما طويلة أو مختزلة دون وجود مبرر فنى لذلك ولم نجد فيلما واحدا أحدث توازنا بين ما يجب عرضه أو حذفه. على الرغم من تعدد كتاب السيناريو، وتنوع مخرجيها ومشاركة القوات المسلحة فى إنتاجها، إلا أن النتيجة النهائية كانت هزيلة لم تعكس ذلك المجهود الجماعى. كانت نهاية تلك الأفلام الستة عكس ما هو مطلوب من أفلام الحرب؛ أن تشعر المواطن بالفخر والاعتزاز بالنصر وترسيخ معانى الوطنية والانتماء وزيادة الوعى بنصر أكتوبر، لكنها أتت بنهايات قاتمة وحزينة فكان مصير أبطالها إما الموت أو التخلى (عن الحبيبة - الأم - الابنة) أو الإعاقة الجسدية، وكانت نتيجة العرض بهذا الشكل أن ترسخت كراهية الحرب التى فرقت الأحبة وسببت لهم التعاسة. كانت حواراتها ضعيفة خطابية لم تشعر المشاهد بالمصداقية، بل وردت فى غير أوقاتها أو صدرت عمن هم ليسوا جديرين بترديدها. اعتمدت أحداثها على عامل الصدفة وانتهت بنهايات متوقعة منذ بداية الفيلم وشملت مشاهد عديدة من المواويل والعرى والراقصات لم يكن لها داع فى فيلم يخلد انتصارات أكتوبر، وهذا يؤكد أن غرض صانعيها هو الترويج والربح المادى فقط. لم تتعمق الأفلام الستة حول المردود النفسى لنصر أكتوبر وحولته إلى انتصار وقتى ينتهى مع انتهاء مشكلة أبطاله. وترجع د. درية شرف الدين فى كتابها أسباب عزوف المخرجين والمنتجين عن أفلام الحرب للأسباب التالية: لا يمتلك القطاع الخاص القدرة على تمويله، ولا يوجد قطاع عام قادر على تأدية المهمة أو حتى يعلن عن نيته بتمويل فيلم عن حرب أكتوبر. عدم قدرة السينمائيين المصريين على صنع أفلام تخلد نصر أكتوبر يُظهر ضعف السينما المصرية على صنع أفلام من ذلك النوع لأنها لا تمتلك مقومات إجادته. ربما يعود ذلك العجز والإنتاج الضعيف لفترة الانفتاح الاقتصادى وما ترتب عليه من أضرار لقطاع واسع من الجماهير، عقدة السلام مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، توجه النظام الحاكم فى السبعينيات لتضييق الديمقراطية قد أدى إلى تضييق الخناق على المثقفين من صناع السينما (سيناريست - مخرج - منتج) فأحجموا عن إظهار تأييدهم للنظام حتى لو كان التأييد لنصر حقيقى بالفعل. اتسام السينما المصرية بالصبغة التجارية وما يدره شباك التذاكر فاستغلت السينما لتأجج مشاعر الجماهير وتتوقهم لمعاصرة أحداث الحرب على الشاشة فأقحموها على السيناريو وحينما هدأ الوضع اتجهت رغما عنها لموضوعات تحقق الربح أكثر.