العنصريات أنواع: عرقية كما جرى منذ عقود مع الأمريكيين السود فى الولاياتالمتحدة، ومع الأكراد فى بعض الدول.. ودينية كما جرى فى البوسنة فى أوائل التسعينيات.. وسياسية كما سيأتى تفصيله. طبعا هناك أيضا عنصرية جنسية (ضد المرأة) كما فى السعودية وإسرائيل، ولكن هذا موضوع آخر. فى أوروبا والولاياتالمتحدة اليوم، يمكنك أن ترى أنواع العنصرية منتشرة بدرجات متفاوتة. فى فرنسا على سبيل المثال، لا توجد مشكلة مع الأعراق المختلفة، وإنما المشكلة فى الأساس مع المسلمين، ومن ورائهم العرب. أما بريطانيا، فهى أخف دول أوروبا عنصرية، كما كان استعمارها هو الأخف قسوة مقارنة بالاستعمار الفرنسى أو الإيطالى أو البرتغالى، العنصرية فى بريطانيا أساسا سياسية، وبدرجة أقل عرقية. أما أم العنصريات فهى الصهيونية التى تجمع الدينى مع العرقى مع السياسى. العنصرية الدينية هى أكثر العنصريات انتشارا فى هذا العصر. عندما اجتاح الصرب المدن والبلدات البوسنية فى أوائل التسعينيات، وأعملوا فى المسلمين قتلا وذبحا وتشريدا، وصفت دول أوروبا ما يجرى بأنه "تطهير عرقى"، وذلك للتغطية على الحقيقة. فالصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك والبوشناق المسلمين، ينتمون إلى عرق واحد، ولا يختلفون إلا فى الديانة. ومن ثم فإن ما جرى كان فى حقيقته تطهيرا دينيا لا يختلف فى دوافعه عن الحروب الصليبية. وليس أدل على ذلك من أن أكثر الدول تأييدا للصرب فى حربهم على المسلمين كانت روسيا واليونان اللتين تشاركان الصرب فى العقيدة المسيحية الأرثوذكسية. غير أن الصحف العربية كانت تستخدم مصطلح "التطهير العرقى" نقلا عن صحافة الغرب، إما عن غير وعى، وإما عن عمد لتضليل العرب والمسلمين.. تماما كما يرددون اليوم مصطلحات "المدنى" و"الليبرالى" لتضليل الناس بالتغطية على الهوية العلمانية لخصوم الإسلاميين. ولكن ماذا تعنى العنصرية السياسية؟ منذ عشرين عاما، كنت أعمل باحثا فى جامعة أكسفورد فى بريطانيا. وكنت أراسل بانتظام الصحف البريطانية بتعليقات عن الانتفاضة الفلسطينية أو "عاصفة الصحراء" أو اتفاقية أوسلو أو حرب البوسنة. وكنت ألاحظ أنه كلما حاولت وصف ما يجرى فى البوسنة بأنه تطهير دينى، أو كلما أشرت إلى ممارسات إسرائيل العنصرية، فإن الخطاب لا ينشر. هذه عنصرية سياسية تدلل على أن معظم ما يقال عن حرية الصحافة فى الغرب تنقصه الدقة، وأن هذه الحرية نسبية. فالهامش يتسع فى صحف متحررة مستقلة مثل (الإندبندنت) و(الجارديان)، ويضيق كلما اتجهت الصحيفة إلى الصهيونية.. حتى إنه يكاد يختفى فى صحف مثل (الديلى تلجراف). لا حظت أيضا أن أية هجوم على إسرائيل فى الصحافة الصهيونية (أمريكية أو بريطانية) ممنوع إذا جاء من قارئ عربى مسلم مثلى.. وأن الهجوم نفسه مرحب به ويتم نشره إذا جاء من قارئ يهودى. وقد كانت لى عدة مواجهات مع الصحافة البريطانية، أكثرها غرابة كانت مع مراسل (الصنداى تلجراف) كون كوفلين. تفاصيل هذه المواجهة، التى امتدت عدة شهور منشورة فى موقعى على الإنترنت. ولكن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو الكيفية التى انتهت بها المواجهة، وكان ذلك بخطاب شخصى من المراسل يخبرنى فيه بصريح العبارة: "إن خطابك لن ينشر وعليك أن تتوقف عن إزعاجنا فى المستقبل". هذا الموقف الصريح من المراسل العنصرى، افتقدته فى تعامل الصحف المصرية معى، وخاصة صحيفة (الشروق) التى قامت بتشويه إحدى مقالاتى ثم نزلت به إلى زاوية البريد، حتى أفهم أنه على أن أتوقف عن إزعاجهم. مارست صحيفة (الشروق) ضدى عنصرية مشابهة لما لقيته فى بريطانيا.. فالفكرة مرحب بها إذا جاءت من كاتب علمانى.. أما إذا جاءت الفكرة نفسها من كاتب إسلامى، فالنشر ممنوع. وإذا كان ذلك هو موقف (الشروق)، وهى أكثر الصحف العلمانية اعتدالا، فما بالنا بالصحف الأكثر تطرفا مثل (المصرى اليوم) أو (الفجر)؟ والحكاية أنى كنت ببساطة أول كاتب مصرى بعد الثورة يحذر من خطورة الهوس العلمانى المرضى بالإخوان المسلمين، وذلك بعد ردود فعل عدد من الكتاب العلمانيين على خطبة د. يوسف القرضاوى فى ميدان التحرير بعد أسبوع من خلع مبارك. كانت د. نيفين مسعد واحدة من هؤلاء الكتاب، حيث اتهمت القرضاوى بأنه يريد أن يكون "إماما للثورة"، وأن هذا بمثابة اختطاف لها. أرسلت ردا إلى (الشروق) بعنوان "الهوس بالإسلاميين وصفة أكيدة للفشل"، وكررت المحاولة مرتين تاليتين فى تعليقين على مقالات أخرى مهووسة بكراهية الإخوان، ولكن كان هناك إصرار على منع النشر. من ضمن ما قلته فى هذه المقالات، ما يلى: "منذ سنوات بعيدة عند ما كانت انتخابات النقابات المهنية ونوادى هيئات التدريس تُجرى بحرية ونزاهة بعيدا عن سيطرة نظام مبارك، كانت النتائج دائما ما تنتهى إلى فوز كاسح لقوائم التيار الإسلامى. كان هذا الضعف البالغ لخصوم الإسلاميين وانعدام شعبيتهم أمرا مزعجا لى لأنى كنت وما زلت أرى أن هذا الوضع الذى تنعدم فيه المنافسة، ضار بالجميع؛ لأن الممارسة السياسية لا ترتقى إلى المستوى الضرورى من النضج إلا فى ظل الضغوط والمنافسة القوية، هذا الانعدام لشعبية التيار العلمانى كانت تعود، فى تقديرى، إلى سبب رئيسى، وهو أن رموز هذا التيار مهووسة ومنشغلة بما تعتبره أخطارا يمثلها وجود الإسلاميين على الساحة، أكثر من انشغالها بالعمل فى أوساط الناس لبناء شعبية لتيارها. بتعبير آخر، كان تركيز العلمانيين منصب على التنفير من "أخطار وتهديدات" الإسلاميين، بدلا من التبشير بما فى جعبتهم هم من أفكار وبرامج قابلة للتطبيق على أرض الواقع. قد تكون التجارب المريرة التى مرت بها النخبة العلمانية فى منافساتها السابقة مع الإسلاميين، أثرت سلبا عليها، فدفعت رموزها إلى التركيز على مثالب الخصوم بدلا من التركيز على تدعيم مصداقيتهم فى الشارع. غير أن العلمانيين لديهم الكثير من العوامل التى تدفع فى اتجاه الثقة بالذات وبالقدرة على تقديم منافسة قوية فى الانتخابات التشريعية القادمة. على رأس هذه العوامل الظهور القوى والمتمكن للدكتور محمد البرادعى، والاحترام والتقدير اللذان يحظى بهما حتى فى أوساط الإسلاميين. من العوامل الأخرى المهمة هى المشاركة القوية للشباب العلمانى فى إطلاق ثورة يناير والدفاع عنها. العامل الثالث هو أن العلمانيين يمتلكون من وسائل الدعاية الإعلامية من صحف قومية وخاصة، بالإضافة إلى عدد من الفضائيات، ما يفتقد إليه التيار الإسلامى. المتوقع إذن من التيار العلمانى هو أن يبذل وقته وجهده خلال الشهور القادمة لتشكيل كوادره وبناء شعبيته وإقناع الناس بأفكاره، بدلا من تضييع الوقت والجهد فى تخوين وتشويه الخصم والتذمر والشكوى منه". فى هذا الوقت لم تكن صحيفة (الحرية والعدالة) قد ظهرت بعد، وكانت العنصرية السياسية ضد الإسلاميين هى أحد المواقف الراسخة للصحف العلمانية. لم أحاول نشر الفكرة فى صحيفة أخرى، لأن جميعها أكثر تطرفا من (الشروق)، ومن ثم فالمحاولة غير مجدية. فقط بعد شهور، وبعدما أسفرت عنه انتخابات مجلس الشعب، بدأت الصحف العلمانية تنشر الفكرة نفسها لكتاب آخرين مثل -مع حفظ الألقاب- منار الشوربجى ومنتصر الزيات ومحمد صلاح ونبيل فاروق. ووصف عمرو الشوبكى الخوف العلمانى من الإسلاميين بأن "جانبا منه مرضى". حتى مدير تحرير (الشروق) نفسه كتب مؤخرا مقالا بعنوان "إلى الخائفين من الأخونة.. اعملوا وكفوا عن الولولة" يروج لنفس الفكرة التى أرسلتها إليه ومنع نشرها منذ أكثر من عام، لا لشىء إلا لأن كاتبها ينتمى إلى التيار الإسلامى "المحظور". ولا يعنى حرص كل من هذه الصحف على استكتاب كاتب إسلامى واحد، أنها لا تمارس العنصرية السياسية.. لأن هذا يحدث على سبيل الاستثناء، ولأن تأثير هذا الكاتب الواحد يضيع وسط فيض من الكتابات العلمانية المسمومة. من مظاهر العنصرية السياسية الأخرى أن يقول كبير العلمانيين مراد وهبة إنه "لا ديمقراطية بدون علمانية".. وهو يقصد هنا الديمقراطية الإقصائية كتلك التى تمارسها إسرائيل (لا ديمقراطية إلا لليهود). ومن مظاهرها أيضا أن يقول صلاح عيسى: "إن الدولة الديمقراطية لا بد أن تكون علمانية"، أو أن يقول جمال فهمى إن "الديمقراطية لا تأتى بالضرورة بالأصلح" تعليقا على انتخابات مجلس الشعب، وكأنه نصب نفسه حكما يقرر للشعب من هو الأصلح. ------------------------------------------------ أستاذ بهندسة القاهرة ssezz.com