السجينات بالعنبر يلقبنها بفرجينا الإخوان؛ هي الحرة الصغيرة أسماء مختار, اعتقالها حال بينها وبين دراستها في أول عام دراسي لها بجامعة عين شمس, وجاءت الطامة الكبرى ليصدر ضدها حكم قضائي بالحبس خمس سنوات بتهمة حيازة نبلة!! اقتربت نحو سريري رقيقة الطبع والملامح, قالت لي على استحياء: سماح.. ممكن تساعديني أكتب جواب، اعتدلت من نومتي ونظرت إليها بخبث امرأة، قائلة: جواب ايه يا أسماء؟! رفعت حاجبها في محاولة منها لاستجماع قوتها وكسر الخجل الذي جعل وجهها أكثر حمرة: جواب لخطيبي يا سماح. كانت أسماء تلتزم بمكان نومها، لا تتحدث كثيرًا، تمسك بأوراقها وقلمها، وتظل تكتب بالساعات، لا أحد يعرف ماذا تكتب أو لمن! وبعدما تنتهي من كتاباتها تغلق كشكولها أو تمزق كلماتها لكي لا يراها أحد، وتسحب بغطاء فراشتها على وجهها لتنهي يومها ببكاء. كنت أتابعها من سريري المقابل، ولكني تعودت ألا أقتحم حياة من حولي، فأدعو بأن يخفف الله عن صغيرتي، والتي لم تعرف ماذا يخفي القدر لها, تبوح لي فتزيدني حبا في الإخوان, وهي تفرك بيديها تبحث عن كلمات تعبر بها عن مشاعرها ببراءة منقطعة النظير. تتحدث: يا سماح.. أنا مش عارفة والله أكتب جواب، ثم انطلقت الكلمات منها بعشوائية كالرصاص, جمل بسيطة ولكنها تحمل بين طياتها ما يجعلك تكفر أمام صدقها بدولة القانون الذي يتلون كالحرباء، عاوزه أقوله يصبر.. أنا مخطوبة قبل مدخل "السجن" بأيام, ملحقناش نفرح ببعض، أهله كانوا فرحانيين بارتباطنا.. يا رب رأيهم ميتغيرش السنة دي.. راحت علي طب والسنة الجاية تفتكري هخرج في الاستئناف على الحكم, أصل خمس سنيين برضو انتظار كتير يا سماح عليه.. كان حاطط أمل نتجوز قبل مخلص جامعة.. عاوزة أقوله كلمة حلوة بس ميبقاش فيها مخالفة شرعية. قاطعت كلماتها التي تقطعني متساءلة: هو انتي اتعذبتي يا أسماء خلال اعتقالك؟! بابتسامة قهر تتحدث "بصي يا سماح.. أكتر حاجة مدايقاني إن الضابط شلني وضربني ونزع حجابي.. وخطيبي شاف مشهد السحل ده ع النت, ولما روحت القسم اتعرضت للضرب وغموا عيني وقعدوا يشتموا فيا, ولما سألت الضابط انت ليه بتشتم, مد ايده علي. "الضربات القوية تصقل الحديد وتهشم الزجاج"، استهلي جوابك بتلك الجملة يا أسماء, ولا تقلقلي سيفوز بكِ عن قريب، وإن تخلى عنك فهو الخاسر"، سارعت "لأ يا سماح هو هيصبر عشان يعني "بيحبني"، عصفورة المعتقل طارت فرحا بعد أن وجدت أحدا يشاركها همومها, وفي كل يوم تأتي لتقص علينا طرائفها من خطيبها, وتسألنا عن طريقة نساعدها فيها علي المذاكرة, كانت تبكي أحيانا أمام الكتب وهي تتذكر أمها وأخواتها وتحن شوقا إليهم, توقظني بصلاة الفجر وتسألني وهي الأصغر سنا!!! فأبتسم لحرصها على الفريضة وأبرر لنفسي قائلة "يابنتي العشاء عادي لو أخرتها شوية". 5 سنوات, مدة قاسية أيها القاضي, سبحان من ختم على قلوب ارتضت بحبس صغيرات بزنزانة وسحلهن فقط لأنهن خرجن يشاركن بمظاهرة تعارض نظام ترفض بقاءه. مشاعر إخوانية رقيقة تجسدها أسماء بإتقان من خلال جوابات تحاول تسريبها في معصم يديها.. "بصي يا سماح جوابات شرعية أهو", هكذا تعلق بعد قراءة جوابات خطيبها ثم تنهض لسريرها لتقرؤه بإمعان مرات ومرات وجميعها تدور في فلك واحد.. انتظر حتى يأتي الله بفرج قريب.
نستكمل فى الحلقة القادمة تابع الحلقات الحلقات السابقة "ليلة القبض على سماح".. الحلقة الخامسة "ليلة القبض على سماح".. الحلقة الرابعة "ليلة القبض على سماح".. الحلقة الثالثة "ليلة القبض على سماح".. الحلقة الثانية "ليلة القبض على سماح".. الحلقة الأولى