في العدوان الإسرائيلي على غزة (10 مايو 21 مايو 2021م) اختلفت مواقف النظام العسكري في مصر رسميا وإعلاميا على الأقل مقارنة بما جرى من خذلان في حرب 2014م؛ والتي انحاز فيها نظام الدكتاتور عبدالفتاح السيسي بشكل سافر وفاجر للعدو الصهيوني، وشنت آلته الإعلامية حملة دعاية سوداء وشيطنة بحق المقاومة الفلسطينية التي تم وصفها بالإرهاب وتحمليها مسئولية الضحايا الفلسطينيين. ومع انتهاء الأسبوع الأول من العدوان على غزة عمل النظام على توظيف آلته الإعلامية لتضخيم دوره باعتباره «موقفا تاريخيا» داعما لفلسطين وقضيتها، رغم أن ما جرى حتى ذلك الوقت كان مجرد بيانات وتصريحات ولم يتم رصد إي إجراء عملي جاد داعم للموقف الفلسطيني مطلقا ولم يتخذ النظام سوى إجراءين: • الأول، هو الجهود المبذولة من أجل وقف إطلاق النار والتوصل إلى تهدئة؛ ما يعني أن غاية النظام في مصر هي إيقاف الحرب واستعادة مسار التفاوض العبثي والعودة إلى متاهة كامب ديفيد وأوسلو. ويريد النظام بذلك استعادة دوره كضابط إيقاع للمفاوضات العبثية والوكيل الحصري لها في القضية والتي كان يتعيش عليها نظام مبارك من قبل ليثبت للأمريكان دوره المحوري والخادم لمصحالها وأجندتها في المنطقة. • الثاني، هو فتح معبر رفح أمام حالات المصابين والجرحي جراء العدوان الإسرائيلي، وتخصيص 10 سيارات إسعاف للجرحي في غزة مع تقديم بعض المساعدات الطبية للقطاع. وهو الإجراء العملي الوحيد الذي قام به نظام السيسي حتى كتابة هذه السطور لكنه في كل الأحوال لا يستحق كل هذه البروباجندا الإعلامية والهالة الضخمة والتطبيل والزمر لما يسمى "الموقف التاريخي". وفي الأربعاء 19 مايو، فاجأ النظام الجميع بالإعلان عن مبادرة لإعادة إعمار غزة بتكلفة نصف مليار دولار؛ ومبلغ الدهشة هنا أن مصر دولة فقيرة للغاية وتعيش على الاقتراض وفرض الضرائب الباهظة فكيف يمكن تدبير هذا المبلغ؟ الأمر الآخر أن هناك دولا خليجية (قطر مثلا) قادرة على إعادة إعمار غزة كاملا على نفقاتها الخاصة وقد دأبت على ذلك بالفعل في أعقاب الحروب الإسرائيلية على القطاع. لكن الدهشة تزول في اليوم التالي إذ أعلن صندوق "تحيا مصر" الذي يشرف عليه السيسي مباشرة ولا يتمتع بأي رقابة على أمواله وأنشطته عن تخصيص حساب للتبرع لإعمار غزة. كما كشفت وسائل إعلام النظام أن الصندوق يستعد لإطلاق قافلة مساعدات إنسانية للقطاع تضم 100 حاوية. في تكريس لاحتكار الدولة حتى للإعمال الخيرية وأن الهدف من الصندوق هو أن يكون بديلا للمؤسسات الخيرية في المجتمع والتي تعرضت لحملة إغلاق واسعة في أعقاب انقلاب 3 يوليو2013م. ويستهدف النظام بذلك تعميق التأثير المصري على غزة حتى يكون نظام السيسي الكفيل الحصري للقطاع وهو ما يعزز قيمته عند الإدارة الأمريكية كما يمكِّن النظام من توظيف المقاومة أحيانا عند توافق المصالح لخدمة بعض توجهاته التي لا يقدر عليها بشكل مباشر. مديح إسرائيلي! اللافت في الأمر أن هذا الموقف المصري التاريخي الذي دفع إعلام السلطة إلى وصف السيسي بأنه زعيم العرب لم يقابل من جانب حكومة الاحتلال أو أي من مستوياته السياسية والإعلامية بالإنكار والإدانة؛ بل على العكس تماما فقد قوبل الموقف المصري بالمديح والثناء؛ وبحسب الباحث والمحلل السياسي الدكتور صالح النعامي فإن المستويات السياسية والعسكرية والإعلامية في دولة الاحتلال الإسرائيلي أجمعت على الإشادة بدور مصر، مبرزة كيف استفادت منه تل أبيب في خضم التصعيد الذي شهدته الأراضي الفلسطينيةالمحتلة والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. فإلى جانب حرص رئيس الحكومة الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على توجيه الشكر للسيسي، لدور بلاده في قيادة جهود الوساطة التي أفضت إلى وقف إطلاق نار فجر الجمعة بعد 11 يوماً من العدوان، كشفت وسائل الإعلام العبرية أن المخابرات المصرية لعبت دورا مهما في تقليص المخاطر التي تعرض لها العمق الإسرائيلي أثناء الحرب عبر الضغط على حركات المقاومة في غزة لعدم إطلاق الصواريخ في أكثر من محطة من محطات الحرب. وذكرت صحيفة "يسرائيل هيوم"، أوسع الصحف الإسرائيلية انتشارا والمقربة من نتنياهو، أن مصر ممثلة بأحمد عبد الخالق، مسؤول الملف الفلسطيني في جهاز المخابرات العامة المصرية، تعهدت لإسرائيل يوم الخميس الماضي 20 مايو ليس فقط بأن تلتزم المقاومة الفلسطينية بالموعد المحدد لوقف إطلاق النار في الثانية من فجر الجمعة، بل أكدت لتل أبيب أنها ستقنع المقاومة بعدم إطلاق الدفعة الأخيرة "التقليدية" من الصواريخ التي كانت المقاومة عادة ما تنهي بها الحروب وجولات التصعيد مع الاحتلال. ونقلت الصحيفة عن مصادر في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" قولها إن مسار الحرب دل على أنه لا يوجد بديل عن الوساطة المصرية في الحروب والمواجهات مع حركة "حماس". وحسب "أمان" فإن إسرائيل لا يمكنها الاستغناء عن الدور المصري، لا سيما في كل ما يتعلق بالعلاقة مع قطاع غزة والمواجهات مع "حماس". ونقل موقع "والاه" أيضا عن مصادر في البيت الأبيض قولها إن التدخل المصري حال يوم الأحد من الأسبوع الماضي دون قيام "حماس" بإطلاق صواريخ إضافية على مدينة تل أبيب ومحيطها، وأشارت المصادر إلى أن الحركة التزمت، تحت الضغط المصري، لمدة 18 ساعة بعدم إطلاق الصواريخ على هذه المنطقة. العلاقة المصرية الأمريكية من ناحيتها أشارت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى أن مصر من خلال الوساطة بين "حماس" وإسرائيل نجحت في تحسين مكانتها لدى الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي يتخذ موقفا نقديا تجاه نظام الحكم في القاهرة. ولفتت الصحيفة إلى أن الاتصال الذي أجراه بايدن بالسيسي خلال العدوان على القطاع جاء لإدراك واشنطن أهمية الدور الذي تضطلع به القاهرة في استعادة الهدوء. خلاصة الأمر أن تحولات نظام السيسي تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة مقارنة بعدوان 2014 ليس له علاقة بأي مبادئ أخلاقية أو قومية أو عروبية بقدر ما هو موقف براجماتي بحت؛ فالنظام يريد إعلاء النبض القومي العروبي لحماية مصالحه والحد من المخاطر الجسيمة التي تسبب فيها لمصر بسبب سياساته الكارثية وتحالفاته العبثية التي افتقدت لأي عمق في فهم المشهد الإقليمي والدولي وتفكيك عناصره وتحديد من هو الصديق ومن هو العدو؛ وهو ما أفضى إلى الوضع الراهن الفوضوي والمرتبك والكارثي. موقف النظام حاليا يجب دعمه ومساندته فهو في كل الأحوال أفضل من الانحياز الصارخ للكيان الصهيوني كما جرى في حرب 2014م. فقط علينا الحذر من تزييف وعينا وإدراكنا بحقيقة موقف النظام، وألا ننخدع بالقناع الذي يرتديه اليوم فهو ذاته النظام الذي يزج في سجونه بعشرات الآلاف من أنبل وأشرف أبناء وعلماء مصر وأكثرهم استعدادا للدفاع عن قضية فلسطين بتهم ملفقة وأدلة مفبركة، وحقق للعدو أكثر أحلامه وأمانيه وهو الانقلاب العسكري الذي قضى على أي أمل في مصر ديمقراطية وحرة ومستقلة في قرارها السياسي والسيادي على حد سواء. والموقف الذي ينبني على مصالح قد يتغير بين عشية أو ضحاها إذا تغيرت الموازنين وتناقضت المصالح بعكس المواقف الأخلاقية التي تتسم بالمصداقية والدوام.